قصة عمر بن الخطاب مع بائعة اللبن

كتبت بواسطة احمد
نشرت بتاريخ : الأربعاء 5 نوفمبر 2025 - 11:17 صباحًا

حكمة الفاروق وعفة بائعة اللبن: درس في العدل والنزاهة

في سجلات التاريخ الإسلامي، تتوهج مواقف الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كمنارات هداية، تضيء دروب العدل والنزاهة للأجيال. ومن بين هذه المواقف الخالدة، تبرز قصة عمر مع بائعة اللبن، قصة بسيطة في ظاهرها، عميقة في مغزاها، تحمل دروساً لا تُحصى في المسؤولية، والرقابة الذاتية، والالتزام بالحق، حتى في غياب الرقيب المباشر. هذه القصة ليست مجرد سرد لأحداث تاريخية، بل هي شهادة على أخلاق المجتمع الإسلامي الأول، وتجسيد للقيم التي أرساها قادة الإسلام.

ليلة في حياة أمير المؤمنين

كان عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، مثالاً يُحتذى به في الزهد والتواضع، ورغم مسؤولياته الجسيمة، لم يغب عن باله تفقد أحوال الرعية بنفسه. في إحدى الليالي الحالكة، بينما كان أمير المؤمنين يجوب شوارع المدينة ليلاً، متفقداً حال الناس، ويستمع إلى شكواهم، ويراقب أحوالهم، سمع صوتاً قادماً من إحدى البيوت. كان صوتاً نسائياً، يتحدث إلى طفلها، وكأنها تحاول إقناعه بالنوم.

نداء الأم وصوت الضمير

دار حوار مؤثر بين الأم وطفلها، حيث كان الطفل يبكي عطشاً ويرغب في شرب اللبن. لكن الأم، بدافع من إيمانها وتقواها، رفضت أن تخالف أمر أمير المؤمنين الذي كان قد نهى عن خلط اللبن بالماء. قالت الأم لولدها: “يا بني، إن عمر نهى عن ذلك، ولا أزيدن اللبن ماءً، ولن أبيع ما فيه غش، ولا أخشى في الله لومة لائم”. كان صوت الأم هذا، صوت الحق والضمير الحي، يصل إلى مسامع عمر، فيتحرك وجدانه، ويدفعه الفضول لمعرفة مصدر هذا الحديث.

الفاروق على الباب

اقترب عمر من مصدر الصوت، ليجد امرأة بائعة لبن، تحاول تهدئة طفلها الذي يبكي من العطش. استمع عمر إلى حديث الأم مع ابنها، وقد أبدى الطفل إلحاحاً شديداً في طلبه للبن، لكن الأم كانت صامدة في موقفها، ترفض التجاوز على أوامر ولي الأمر، وتفضل الصبر على الغش والخداع. أدرك عمر أن هذه المرأة هي بائعة لبن، وأنها في موقف حساس، لكنها اختارت طريق الأمانة والنزاهة، حتى وهي تواجه ضغطاً من طفلها.

درس في الأمانة والمسؤولية

عندما سمع عمر كلامها، لم يستطع إلا أن يقف متأملاً. لقد كانت هذه المرأة، بفقرها وحاجتها، نموذجاً للأمانة والوفاء بالعهد. لقد أدركت أن مسؤوليتها تجاه الله والناس أسمى من أي منفعة دنيوية زائلة. لقد أثبتت أن الوازع الأخلاقي والضمير الحي هما أشد رقابة من أي شرطة أو قانون. هذا الموقف يوضح مدى تأثير القيم الدينية والأخلاقية في تشكيل سلوك الفرد، حتى في أصعب الظروف.

عمر يتحرك: استجابة العدل

لم يكتفِ عمر بالاستماع، بل أراد أن يتأكد من حقيقة الأمر. أرسل ابنه عبد الله بن عمر، وهو من أهل الثقة والورع، ليشتري منها بعض اللبن. عاد عبد الله باللبن، وأمر عمر بسقيه، فإذا به لبن خالص، لم يُخلط بالماء. هنا، ازداد إعجاب عمر بالمرأة، وأيقن صدقها وأمانتها.

التحرك نحو المسؤولية

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. أراد الفاروق أن يضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه الغش والخداع، وأن يؤكد على أهمية الرقابة العادلة. لقد رأى في هذا الموقف فرصة لتطبيق العدل، وتأكيد مبدأ المسؤولية. لقد أدرك أن رقابة الدولة يجب أن تكون فعالة، وأنها تبدأ من مراقبة النفس، ثم مراقبة الآخرين.

النتيجة: تحقيق العدل ورعاية الرعية

في صباح اليوم التالي، أرسل عمر إلى هذه المرأة، وطلب منها أن تأتي إليه. عندما أتت، سألها عن سبب عدم خلطها اللبن بالماء. أجابت المرأة بنفس جوابها السابق، مؤكدة على خوفها من الله، وطاعتها لأمر أمير المؤمنين. عندها، قال لها عمر: “لقد أمرتُ أن يُشترى اللبن بالسمن، وأمرتُ أن يُباع اللبن بالسمن، وإني خشيتُ أن يأتي يوم القيامة، فأُسأل: يا عمر، أطعمتَ المسلمين ماءً؟”.

بناء مجتمع قائم على الثقة

بهذا الموقف، لم يكتفِ عمر بالتحقق من الأمانة، بل عمل على ضمان استمرارية هذه الأمانة. لقد أمر بأن تُباع الألبان بالسمن، لضمان حصول الناس على لبن خالص، ولضمان حصول البائعين على مقابل عادل لجهدهم. هذا الإجراء لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل كان تأكيداً على مبدأ العدل، ورعاية الدولة لشؤون مواطنيها، وضماناً لعدم استغلال حاجة الناس. لقد سعى عمر إلى بناء مجتمع تسوده الثقة، حيث يشعر كل فرد بالأمان على حقوقه، ويعرف أن الدولة ترعاه وتحميه.

أثر القصة على الأجيال

تعد قصة عمر بن الخطاب مع بائعة اللبن درساً خالداً في النزاهة، والأمانة، والمسؤولية. إنها تذكرنا بأن القيادة الحقيقية لا تكمن في السلطة، بل في الخدمة، وفي السهر على مصالح الناس، وفي تطبيق العدل قولاً وعملاً. إنها قصة تعلمنا أن أشد الرقابة هي رقابة الضمير، وأن أعظم المكافآت هي رضا الله، وأن بناء مجتمع قوي يبدأ من فرد ملتزم بقيمه وأخلاقه. هذه القصة ما زالت تتردد في أروقة التاريخ، لتلهمنا وتذكرنا بأن العدل أساس الملك، وأن الأمانة تبني الأوطان.

اترك التعليق