جدول المحتويات
قصة عمر بن الخطاب مع العجوز: نموذجٌ في العدل والرحمة
تُعدّ قصص الصحابة الكرام، وخاصةً قصص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بمثابة كنوزٍ لا تفنى، تُضيء لنا دروب الحياة بالدروس والعبر. ومن بين هذه القصص المشهورة والمؤثرة، تبرز قصة عمر مع العجوز، التي تجسد أروع صور العدل والرحمة والاهتمام بالرعية، حتى أشدّ أفرادها ضعفًا وحاجة. هذه القصة ليست مجرد رواية تاريخية، بل هي منهج حياة، ونموذجٌ يُحتذى به في الحكم والإدارة، وفي الإنسانية قبل كل شيء.
الليل والمشهد المؤثر
كان عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، شديد الحرص على تفقد أحوال المسلمين بنفسه، لا يكلّ ولا يملّ، ليلاً ونهارًا. كان يتجول في أرجاء المدينة، متنكرًا في أغلب الأحيان، ليقف على احتياجات الناس عن قرب، ويسمع شكواهم، ويُعين المحتاج منهم. وفي إحدى الليالي الباردة، وبينما كان عمر يتجول في أطراف المدينة، سمع صوت أنينٍ خافتٍ قادمٍ من كوخٍ بسيطٍ ومتواضع. لم يتردد عمر لحظة، فاقترب من الكوخ، وتسلل إليه بحذرٍ ليتبين الأمر.
العجوز وحاجتها الماسة
ما إن دخل عمر الكوخ، حتى رأى عجوزًا طاعنةً في السن، تعاني من البرد والجوع، وتبدو عليها علامات الضعف الشديد. كانت العجوز تحتضن طفليها الصغيرين، اللذين كانا يبكيان من شدة الجوع والبرد. وعندما رأت العجوز عمر، استغربت دخوله عليها، ولكنها لم تستطع الكلام من شدة حالتها. سألها عمر بهدوءٍ ولطفٍ: “ما بالكِ يا أمة الله؟ وما الذي يبكيكِ ويبكي أطفالكِ؟”
تحدثت العجوز بصوتٍ واهٍ، وروت لعمر قصتها المؤلمة. قالت إنها أرملةٌ، وزوجها قد توفي تاركًا إياها مع طفلين صغيرين بلا معين. وأنها تعيش في هذه القرية المنعزلة، ولا تملك شيئًا يسد رمق أطفالها، وقد نفد لديها الطعام، والبرد ينهش عظامها وعظام أطفالها. وأضافت بحرقةٍ: “لقد حاولتُ أن أُشعل نارًا، ولكن الحطب قد نفد، ولم أجد ما يسد جوع هؤلاء المساكين.”
استجابة عمر الفورية
عندما سمع عمر هذه الكلمات، فاضت عيناه بالدمع. لقد شعر بمسؤوليةٍ عظيمةٍ تجاه هذه الأم وأطفالها. لم يكن عمر مجرد حاكم، بل كان أبًا رؤوفًا بالرعية. لم يكتفِ بالاستماع، بل أراد أن يُخفف عنها العبء فورًا. سألها عن حال زوجها، وعن موقع بيتها، وعن أي شيءٍ قد يُساعدها. ثم تركها ووعدها بالعودة.
لم يذهب عمر إلى بيته، بل توجه مباشرةً إلى بيت المال. هناك، أخذ عمر قِدرًا كبيرًا، وملأه بالدقيق والسمن، وبعض التمر، وبعض اللحم، ثم أخذ قربةً من الماء، وحمل كل ذلك بنفسه. كان الصحابة يرونه وهو يحمل هذه الأمتعة الثقيلة، فيتعجبون، ولكنهم لم يجرؤوا على سؤاله.
العودة بالخير والعطاء
عاد عمر أدراجه إلى كوخ العجوز، وهو يحمل كل هذه المؤن. عندما وصل، وجد العجوز ما زالت في حالتها، وأطفالها يبكون. بدأ عمر بإشعال النار، ثم وضع القدر على النار ليبدأ بطهي الطعام. أخذ يهدئ من روع الأطفال، ويُبشّرهم بقرب الفرج. كانت العجوز تنظر إليه بدهشةٍ وإعجابٍ، كيف لهذا الرجل العظيم أن يهتم بأمرها هكذا.
عندما نضج الطعام، بدأ عمر يطعم الأطفال بيديه، ويُسقيهم. كانت فرحة الأطفال لا توصف، وقد انقطع بكاؤهم وحلّ محله البهجة. ثم قدّم الطعام للعجوز، وشجعها على الأكل. وبعد أن اطمأن عمر على حالهم، وشعر بأنهم قد شبعوا، جلس معهم قليلاً، يتحدث إليهم ويُطمئنهم.
الدرس الذي لا يُنسى
قبل أن يغادر عمر، سألته العجوز ببراءةٍ: “من أنت يا هذا الذي أتيت إلينا في هذه الليلة؟” فأجابها عمر بابتسامةٍ حانيةٍ: “أنا من عمرتُ المدينة، أنا عمر بن الخطاب.” عند سماعها لاسمه، كادت العجوز أن تُغمى عليها من هول المفاجأة. لقد أدركت أن الذي كان يُسقيها ويُطعمها بيديه هو أمير المؤمنين نفسه.
قال لها عمر: “يا أمة الله، إنما أنا واحدٌ منكم، ووالله لو أني تركتُكم هكذا، لكان ذلك تقصيرًا مني. وإنما وليتُ أمركم لأرعى شؤونكم، وأُعينكم على ما يُصيبكم. فلا تخافي، فسيأتيكِ رزقكِ وستعيشين في خيرٍ وعافية.”
تطبيق منهجي للعدل والرحمة
لم تكن هذه الحادثة مجرد موقفٍ عابرٍ في حياة عمر، بل كانت تجسيدًا لنهجه في الحكم. لقد كان يؤمن بأن مسؤولية الحاكم لا تقتصر على سن القوانين وإدارة الدولة، بل تمتد لتشمل رعاية الضعفاء والمحتاجين، والتأكد من أن لا أحد في رعيته يشعر بالجوع أو البرد أو الظلم. كان عمر يرى أن هذه مسؤوليته الأولى، وأنها أمانةٌ عظيمةٌ سيُحاسب عليها أمام الله.
كانت هذه القصة، وغيرها الكثير من قصص عمر، تُظهر لنا كيف كان يُمارس العدل ليس فقط بالقضاء على الظلم، بل أيضًا بتقديم العون والمساعدة لمن هم في أمس الحاجة إليها. لقد أثبت عمر بن الخطاب، من خلال أفعاله، أن القيادة الحقيقية هي قيادةٌ تخدم الناس، وتُشعرهم بالأمان والطمأنينة.
الإرث المستمر
تظل قصة عمر مع العجوز مصدر إلهامٍ لنا حتى يومنا هذا. إنها تُذكرنا بأن العدل ليس مجرد إجراءاتٍ شكلية، بل هو شعورٌ عميقٌ بالمسؤولية تجاه الآخرين، خاصةً الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع. كما أنها تُعلمنا أن الرحمة والعطاء يجب أن يكونا جزءًا لا يتجزأ من حياتنا، وأن الاهتمام بالآخرين هو من صميم الإنسانية. إنها قصةٌ تُثبت أن العدل والرحمة هما أساس بناء مجتمعٍ قويٍ ومتماسكٍ، ينعم فيه الجميع بالكرامة والأمان.
