إجهاض الجنين المشوه وحكمه في الشريعة الإسلامية

كتبت بواسطة صفاء
نشرت بتاريخ : الخميس 6 نوفمبر 2025 - 9:16 صباحًا

إجهاض الجنين المشوه: رؤية الشريعة الإسلامية وتفاصيل الحكم

تُعد قضية إجهاض الجنين المشوه من القضايا الطبية والأخلاقية والدينية المعقدة التي تثير جدلاً واسعاً في المجتمعات المعاصرة. وفي صميم هذا الجدل، تقف الشريعة الإسلامية بمبادئها وقواعدها الراسخة، مقدمةً رؤية متوازنة تجمع بين الرحمة والعناية بالإنسان، وبين حفظ النفس البشرية وصون كرامتها. إن فهم الحكم الشرعي لهذا الموضوع يتطلب استقراءً دقيقاً للنصوص الشرعية، والنظر في مقاصد الشريعة العامة، والتفريق بين الحالات المختلفة.

مبدأ حفظ النفس كأصل شرعي

تُبرز الشريعة الإسلامية مبدأ حفظ النفس كأحد الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بحفظها، وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال. من هذا المنطلق، يُعد الاعتداء على الجنين، سواء كان سليماً أو مشوهاً، أمراً محظوراً في الأصل، نظراً لأنه يمثل نفساً بشرية لها حرمتها. ولكن، هل ينطبق هذا الحظر المطلق على حالات التشوه الجنيني الواضح الذي قد يترتب عليه معاناة شديدة للجنين ولأسرته؟ هنا تظهر التفاصيل الدقيقة التي تفتح الباب للاجتهاد والنظر في الأدلة.

مرحلة النفخ والتشكل: نقطة فاصلة في الحكم

تُعتبر مرحلة اكتمال خلق الجنين ونفخ الروح فيه نقطة فاصلة في تحديد الحكم الشرعي للإجهاض. قبل هذه المرحلة، والتي تُقدر غالباً بـ 120 يوماً (أربعة أشهر قمرية)، يُنظر إلى الجنين كـ “علقة” أو “مضغة”، ولا يثبت له حكم النفس الكامل. في هذه المرحلة المبكرة، قد يُعطى للإجهاض حكمٌ مختلف، خاصة إذا كان هناك ضرر مؤكد على الأم، أو إذا كان التشوه متوقعاً بشدة بناءً على تقارير طبية موثوقة.

حالات التشوه الجنيني: تفصيل الحكم الشرعي

أولاً: التشوه الذي يهدد حياة الأم أو يسبب لها ضرراً بالغاً

إذا أدى استمرار الحمل إلى خطر محدق على حياة الأم، أو تسبب لها بضرر بالغ مؤكد طبياً، فإن الشريعة الإسلامية تتيح في هذه الحالة إجهاض الجنين، حتى لو كان سليماً، وذلك عملاً بقاعدة “ارتكاب أخف الضررين” و”دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة”. ويُعد إنقاذ حياة الأم مقدمة على حياة الجنين في هذه الحالة.

ثانياً: التشوه الجنيني الواضح والمؤكد طبياً

تُعد مسألة إجهاض الجنين المشوه، الذي لا يُرجى شفاؤه، أو الذي سيترتب على وجوده معاناة شديدة للجنين نفسه ولأسرته، من أكثر المسائل التي تتطلب اجتهاداً دقيقاً.

* **قبل نفخ الروح:** إذا ثبت طبياً، قبل مرور 120 يوماً على الحمل، أن الجنين يعاني من تشوه خلقي شديد، كأن يكون بلا رأس أو بعض أعضاء حيوية، بحيث لا يُرجى له حياة طبيعية أو يُتوقع له معاناة شديدة، فإن بعض الفقهاء المعاصرين يميلون إلى جواز الإجهاض في هذه الحالة، مع ضرورة استشارة طبية موثوقة وقرار من الزوجين. يُنظر إلى هذا على أنه دفع لمشقة محققة، وإنقاذ للجنين من معاناة قد تكون أشد من الموت.

* **بعد نفخ الروح:** أما بعد نفخ الروح (بعد 120 يوماً)، فإن الحكم يختلف جذرياً. في هذه المرحلة، يُعتبر الجنين نفساً كاملة، وإسقاطه يُعد بمثابة قتل، وهو محرم قطعاً. إلا في حالة واحدة، وهي إذا ثبت طبياً بشكل قاطع أن استمرار الحمل سيؤدي إلى موت الأم، كما ذكرنا سابقاً. لا يُنظر إلى التشوه الجنيني بحد ذاته، بعد نفخ الروح، كسبب مبرر للإجهاض، لأن الشريعة تمنح حق الحياة للجنين بغض النظر عن حالته الصحية.

شروط وضوابط للإجهاض في الحالات الجائزة

حتى في الحالات التي تجيز فيها الشريعة الإجهاض، توجد شروط وضوابط صارمة لضمان عدم الانزلاق نحو الاستباحة:

* **التأكيد الطبي الموثوق:** يجب أن يكون التشخيص بالتشوه الجنيني مؤكداً من قبل لجنة طبية موثوقة ومتخصصة، وليس مجرد شك أو ظن.
* **عدم وجود أمل في الشفاء:** يجب أن يكون التشوه شديداً ولا يُرجى شفاؤه، بحيث تترتب عليه معاناة شديدة وغير محتملة.
* **موافقة الزوجين:** يُفضل أن يكون القرار مشتركاً بين الزوجين، بعد استيعاب كامل للموقف وتبعاته.
* **استشارة أهل العلم:** يُنصح دائماً باستشارة أهل العلم الشرعي لبيان الحكم الشرعي في كل حالة على حدة.
* **تجنب الإجهاض بعد نفخ الروح إلا للضرورة القصوى:** كما ذكرنا، يُعد الإجهاض بعد 120 يوماً جريمة إلا في حالة إنقاذ حياة الأم.

مقاصد الشريعة وموازنة المصالح

تُبنى أحكام الشريعة على تحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم. وفي قضية إجهاض الجنين المشوه، تتجلى هذه المقاصد في:

* **حفظ النفس:** وهو الأصل، ولكن يُنظر إليه في سياق دفع ضرر أشد.
* **رفع المشقة:** الشريعة جاءت برفع الحرج عن المكلفين.
* **رحمة الخلق:** تتمثل في عدم تعريض الجنين لمعاناة لا يُطاق.
* **الحفاظ على الأسرة والمجتمع:** بتجنب المشاكل النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي قد تنجم عن ولادة طفل يعاني من إعاقات شديدة جداً.

التعامل مع التشوه الجنيني بعد الولادة

إن الشريعة الإسلامية تدعو إلى أعلى درجات الرحمة والرعاية تجاه المولود، حتى لو كان مصاباً بتشوهات. فالمولود مسؤولية الأبوين، وواجب رعايته وتوفير العلاج له، واحتسابه عند الله تعالى. بل إن الله تعالى قد يجعل في هذا الابتلاء خيراً عظيماً للأبوين، من رفعة درجات، وتكفير للذنوب، وتجربة إنسانية فريدة تُنمي لديهم معاني الصبر والاحتساب.

في الختام، تُظهر الشريعة الإسلامية مرونة وحكمة في التعامل مع قضايا الحياة المعقدة. وفي مسألة إجهاض الجنين المشوه، فإن الحكم الشرعي يتسم بالتفصيل والتدقيق، مع مراعاة الحالة الصحية للجنين، ومرحلة الحمل، والأثر على الأم، وكل ذلك في إطار مقاصد الشريعة السمحة التي تهدف إلى تحقيق الخيرية والرحمة للبشرية جمعاء.

الأكثر بحث حول "إجهاض الجنين المشوه وحكمه في الشريعة الإسلامية"

اترك التعليق