هل الزواج مكتوب أم اختيار ابن عثيمين

كتبت بواسطة نجلاء
نشرت بتاريخ : الخميس 6 نوفمبر 2025 - 10:17 صباحًا

الزواج: قضاء أم اختيار؟ رؤية شرعية وفقهية معمقة

تُعد مسألة الزواج من أعمق القضايا الإنسانية وأكثرها تشابكًا، فهي تجمع بين الأبعاد الشرعية، والاجتماعية، والنفسية، بل وحتى القدرية. ومن بين الأسئلة الجوهرية التي تطرح نفسها بقوة عند الحديث عن الزواج: هل هو قضاء محتوم ومكتوب سلفًا، أم هو محض اختيار بشري يعتمد على إرادة الأفراد ورغباتهم؟ وفي سياق البحث عن إجابات شافية، تبرز آراء العلماء الأجلاء، ومن بينهم العلامة محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – كمنارات فكرية ترشدنا في فهم هذه المسألة المعقدة.

مفهوم القضاء والقدر في الإسلام

قبل الخوض في تفاصيل مسألة الزواج، من الضروري استيعاب مفهوم القضاء والقدر في المنظور الإسلامي. يؤمن المسلمون بأن الله – سبحانه وتعالى – قد علم كل شيء قبل وقوعه، وأن كل ما يحدث في الكون إنما هو بعلمه وإرادته وخلقه. يشمل هذا الإيمان القضاء بالخير والشر، والرزق، والأجل، والأحوال التي يمر بها الإنسان. ومع ذلك، فإن هذا الإيمان بالقضاء والقدر لا يلغي مسؤولية الإنسان عن أفعاله واختياراته، بل هو موازنة دقيقة بين علم الله المطلق وحرية الإنسان النسبية.

هل الزواج مكتوب؟ وجهة نظر العلامة ابن عثيمين

في تناول العلامة ابن عثيمين لمسألة الزواج، يتجلى الجمع بين الإيمان بقضاء الله وقدره وبين التأكيد على دور الاختيار البشري. يرى الشيخ – رحمه الله – أن الله – عز وجل – قد كتب مقادير كل شيء، بما في ذلك الزواج، ولكنه لم يجبر العباد على اختياراتهم. بمعنى آخر، فإن علمه سبحانه بما سيؤول إليه أمر الزواج، وما سيحدث بين الأزواج، هو علم سابق، لكنه لا يعني سلب الإرادة من الإنسان.

يُمكن تفسير ذلك بأن الله – سبحانه وتعالى – يعلم من سيتزوج بمن، وما ستكون نتيجة هذا الزواج، ولكن هذا العلم لا يعني أن الشخص قد أُجبر على هذا الزواج. بل إن الله – سبحانه وتعالى – قد وهب الإنسان قدرة على الاختيار، وجعله مسؤولاً عن قراراته. فالزواج، من هذه الزاوية، هو نتيجة لتفاعل بين القضاء الإلهي والاختيار البشري.

الزواج كقضاء إلهي

يشير ابن عثيمين إلى أن تحديد الأقدار، بما فيها من سيقترن بمن، هو أمر سابق في علم الله – عز وجل -. وهذا يعني أن هناك حكمة إلهية وراء كل زواج، وأن الله – سبحانه وتعالى – قد أذن بحدوثه في وقت معين وبشخصين معينين. هذا الجانب من الزواج يتعلق بالتدبير الإلهي الشامل الذي يشمل جميع جوانب الحياة.

الزواج كاختيار بشري

في المقابل، يؤكد الشيخ – رحمه الله – بشدة على أهمية الاختيار والمسؤولية الشخصية في الزواج. فالشخص هو من يختار شريكة حياته، وهو من يتقدم للزواج، وهو من يتخذ قرار الارتباط. هذا الاختيار يجب أن يكون مبنيًا على أسس صحيحة، مثل الدين والخلق، وأن يراعي فيه الإنسان المصالح والمفاسد. إن إهمال هذا الجانب من الاختيار بحجة أن الزواج مكتوب قد يؤدي إلى التساهل في اختيار الشريك، أو القبول بزيجات غير موفقة، ثم تحميل القدر مسؤولية ما قد ينتج عن ذلك من مشاكل.

التفصيل في أدوار الاختيار في الزواج

يمكن تفصيل دور الاختيار في الزواج من عدة جوانب:

أولاً: اختيار الشريك المناسب

يُعد اختيار الشريك من أهم مراحل الزواج، وهو مسؤولية مشتركة بين الرجل والمرأة. فالرجل يختار الزوجة التي تلبي تطلعاته الشرعية والاجتماعية، والمرأة تختار الزوج الذي يلائمها في الدين والخلق والمكانة. يؤكد ابن عثيمين على ضرورة تحري الدقة في هذا الاختيار، وأن لا يقتصر الأمر على المظاهر الخادعة، بل يجب النظر إلى الجوهر، وخاصة الدين والخلق.

ثانياً: دور الولي في الزواج

لا يغفل ابن عثيمين الدور الشرعي للولي في الزواج، وخاصة ولي المرأة. فالولي له دور في استشارة المرأة، والتأكد من موافقتها، وحمايتها من الزواج بمن لا يناسبها. هذا لا يعني أن الولي يفرض الزواج، بل هو يقوم بدوره الشرعي في الإشراف والتوجيه.

ثالثاً: دور الإرادة والرغبة

تظل الإرادة البشرية ورغبة الإنسان في الزواج عنصراً حاسماً. فلا يمكن لشخص أن يُجبر على الزواج ضد إرادته ورغبته. وحتى لو كان الزواج مكتوباً بمعنى أن الله قد علم به، فإن هذا لا يلغي حاجة الإنسان للشعور بالرغبة في إتمام هذا الأمر.

الموازنة بين القضاء والاختيار

إن الفهم الصحيح لمسألة الزواج يكمن في الموازنة الدقيقة بين الإيمان بالقضاء والقدر والتأكيد على مسؤولية الاختيار. فالقضاء هو علم الله وإرادته الشاملة، أما الاختيار فهو ما يقوم به الإنسان بجوارحه وعقله.

* **حينما يختار الإنسان شريك حياته بناءً على أسس صحيحة، ويسعى لإنجاح زواجه، فإن هذا السعي يكون ضمن القضاء والقدر.** بمعنى أن الله – عز وجل – قد علم بسعيه، ويسّر له أسباب النجاح إذا كان اختياره صائبًا.
* **وحينما يقع اختيار على شخص معين، فإن هذا الاختيار هو جزء من قضاء الله الذي علم به.** ولكن المسؤولية تقع على الشخص في كيفية التعامل مع هذا الاختيار.
* **إذا حدثت مشكلات في الزواج، فلا يجب أن يكون التعليق الأول “هذا نصيب” دون النظر إلى الأسباب.** بل يجب البحث عن الأسباب، واتخاذ الإجراءات اللازمة، وهذا هو مقتضى الاختيار والمسؤولية.

التطبيقات العملية للنظرية

من التطبيقات العملية لهذا الفهم:

1. **الدعاء والتضرع إلى الله:** ينبغي على المسلم أن يدعو الله – عز وجل – أن يرزقه الزوجة الصالحة أو الزوج الصالح، وأن يوفقه في اختياره. فالدعاء هو سلاح المؤمن، وهو جزء من العمل والسعي.
2. **بذل الأسباب:** على الشباب والشابات السعي في البحث عن الشريك المناسب، وعدم الاتكال على مجرد الانتظار. يتضمن ذلك الاستخارة، والاستشارة، والتعرف على الطرف الآخر بشكل شرعي.
3. **الرضا بما قسم الله:** بعد بذل الأسباب، يجب على الإنسان أن يرضى بما قسم الله له، وأن يحسن الظن به. فالله – سبحانه وتعالى – لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
4. **تحمل المسؤولية:** في حال حدوث مشاكل، يجب على الزوجين تحمل المسؤولية المشتركة، والسعي لحلها، وعدم القفز إلى تفسيرات سطحية كإلقاء اللوم على القدر دون وجه حق.

خاتمة: الزواج، رحلة مشتركة بين السماء والأرض

في الختام، يمكن القول بأن الزواج ليس مجرد قضاء مفروض لا يمكن تغييره، ولا هو مجرد اختيار محض بمعزل عن إرادة الله. إنه مزيج متكامل بين علم الله وقضائه، وبين اختيار الإنسان وسعيه ومسؤوليته. يرى ابن عثيمين – رحمه الله – أن الله كتب المقادير، ولكن هذا لا يسلب الإنسان حريته في الاختيار، بل إن اختياراته هي جزء من تقدير الله الذي يعلمه. إن فهم هذه الموازنة الدقيقة هو ما يجعل الزواج رحلة مباركة، تسير فيها خطوات الإنسان تحت مظلة القضاء الإلهي، مدفوعة بإرادته الحرة واختياراته الواعية، سعيًا نحو حياة زوجية سعيدة ومستقرة.

اترك التعليق