هل الزواج مكتوب أم اختيار ابن باز

مفهوم الزواج بين القضاء والقدر والاختيار: رؤية ابن باز

يُعد الزواج من أهم مؤسسات الحياة الاجتماعية، وبناءً عليه تتشكل الأسر وتترابط المجتمعات. وفي خضم التساؤلات التي تحيط بهذه المؤسسة المقدسة، يبرز جدل فلسفي وروحي عميق حول ما إذا كان الزواج مكتوبًا قدرًا، أم هو نتاج اختيار حر للإنسان. ولعل استعراض آراء عالم جليل كابن باز، رحمه الله، حول هذه القضية يلقي ضوءًا كاشفًا على فهم أعمق لأبعادها الشرعية والإيمانية.

الزواج والقضاء والقدر: إيمان بالمكتوب

من منظور إسلامي، لا يمكن فصل قضاء الله وقدره عن مجريات حياة الإنسان، بما في ذلك الزواج. يؤمن المسلمون بأن كل ما يحدث في الكون، خيره وشره، مسطر في علم الله الأزلي، وأن الأقدار تجري وفق مشيئته وحكمته. هذا المعتقد لا ينفي دور الإنسان، ولكنه يضع أفعاله ضمن إطار علم الله الشامل.

مفهوم القدر في الإسلام

القدر في الإسلام يعني علم الله الشامل والمسبق بكل شيء، وكتابته لكل ما سيحدث، ومشيئته التي لا تعارضها مشيئة، وخلقه لكل شيء. هذا يعني أن الله يعلم بمن سيتزوج كل شخص، ومتى، وكيف ستكون نتيجة هذا الزواج. هذا العلم وهذه الكتابة لا تعنيان جبر الإنسان على فعله، بل هما جزء من علمه وحكمته.

تأثير الإيمان بالقدر على نظرة الزواج

عندما يؤمن المسلم بأن الزواج، بما فيه اختيار الشريك، هو جزء من قدر الله، فإن ذلك يمنحه شعورًا بالسكينة والطمأنينة. فمهما كانت الظروف، فإن ما يصيبه هو من عند الله، وبهذا يتجاوز المرء الكثير من القلق والتوتر الذي قد يصاحب عملية البحث عن شريك الحياة أو التعامل مع تحديات الزواج. إنها دعوة للتوكل على الله مع الأخذ بالأسباب.

الاختيار البشري ودوره في الزواج: مسؤولية ووعي

على الرغم من الإيمان العميق بالقدر، إلا أن الإسلام لم يلغِ دور الاختيار البشري، بل جعله محورًا أساسيًا في كثير من جوانب الحياة، ومنها الزواج. الزواج ليس مجرد حدث سلبي يقع على الإنسان، بل هو قرار واعٍ ومسؤول يتطلب تفكيرًا وبحثًا واختيارًا.

حرية الاختيار وأهميتها

يمنح الإسلام الإنسان حرية الاختيار ضمن الحدود الشرعية. في الزواج، يُشجع الرجل على النظر إلى المرأة التي يريد خطبتها، والمرأة على اختيار زوجها، وذلك من خلال ما يُعرف بالخِطبة. هذا الاختيار مبني على أسس شرعية مهمة، كالدين والخلق، وليس مجرد ميول عابرة.

دور ابن باز في توضيح هذا المفهوم

لطالما شدد سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله، على أهمية الاختيار الصحيح في الزواج. كان يرى أن القضاء والقدر لا يلغي مسؤولية الإنسان في البحث عن شريك الحياة المناسب، وأن الاختيار المبني على أسس سليمة هو جزء من تحقيق مقاصد الزواج الشرعية. لم يكن ابن باز يدعو إلى ترك الأمور للصدفة، بل كان يحث على بذل الجهد في البحث عن الزوجة الصالحة أو الزوج الصالح، مع التوكل على الله.

التوفيق بين القدر والاختيار: المعادلة الصعبة

إن الجمع بين الإيمان بالقدر والاختيار الواعي هو التحدي الأكبر في فهم الزواج. كيف يمكن للإنسان أن يختار بحرية وهو يؤمن بأن كل شيء قد قُدّر؟

القدر كإطار والاختيار كمسار

يمكن النظر إلى القدر كإطار عام أو كمسار كلي لحياة الإنسان، بينما الاختيار يمثل المسارات التفصيلية التي يسلكها الإنسان داخل هذا الإطار. الله سبحانه وتعالى يعلم ما سيختاره الإنسان، وهذا العلم هو جزء من القدر. فالاختيار هنا ليس خروجًا عن القدر، بل هو جزء من تدبيره.

ابن باز والتوازن بين الأمرين

كان ابن باز، رحمه الله، مثالًا للتوازن في هذا الشأن. كان يقر بأن الزواج قسمة ونصيب، وأن الله قد قدّر لكل شخص شريك حياته. ولكنه في الوقت ذاته، كان يؤكد على أن هذا لا يعني التواكل، بل على العكس، كان يدعو إلى الأخذ بالأسباب، وتحري الدقة في اختيار شريك الحياة، والاستشارة، والدعاء. كان يرى أن الاختيار الصحيح هو وسيلة لتحقيق ما قدّره الله من زواج مبارك وسعيد.

أهمية الاختيار الصحيح في الزواج

يُعد الاختيار الصحيح لشريك الحياة من أهم القرارات التي يتخذها الإنسان في حياته، لما له من تأثير مباشر على سعادته واستقراره في الدنيا والآخرة.

معايير الاختيار الشرعية

شدد الإسلام، وابن باز تبعًا له، على أهمية اختيار شريك الحياة على أساس الدين والخلق. فالزوجة الصالحة تعين على طاعة الله، والزوج الصالح يرعى أهله ويحسن إليهم. هذه المعايير هي التي تضمن استمرار العلاقة الزوجية على أسس متينة وقوية.

دور الاستشارة والدعاء

لم يغفل ابن باز عن أهمية الاستشارة والدعاء في عملية اختيار الزوج أو الزوجة. فمن الحكمة استشارة ذوي الخبرة والرأي السديد، ومن الأدب مع الله طلب التوفيق والعون منه سبحانه. هذه الخطوات تعزز من ثقة الإنسان في اختياره وتجعله أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة الزوجية.

خاتمة: الزواج قدر مختار

في نهاية المطاف، يمكن القول بأن الزواج هو مزيج فريد من القدر والاختيار. هو قدرٌ كتبه الله، ولكنه قدرٌ يتم تحقيقه من خلال خياراتنا ووعينا ومسؤولياتنا. رؤية ابن باز، رحمه الله، تدعونا إلى الإيمان بأن الله قدّر لنا أزواجنا، ولكنها تدعونا أيضًا إلى بذل الجهد في اختيارهم بحكمة ودراية، مع التوكل عليه دائمًا. فالزواج الناجح هو ثمرة إيمان بالقدر، واختيار واعٍ، وسعي دؤوب، ودعاء صادق.