مجموعة (تصبحون ع خير)

كتبت بواسطة مروة
نشرت بتاريخ : الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 - 4:14 مساءً

مجموعة “تصبحون على خير”: إبراهيم الدرغوثي ورحلة استكشاف أغوار الغرابة في الأدب التونسي

مقدمة: إبراهيم الدرغوثي و”تصبحون على خير” – بوابة إلى المألوف والمدهش

تُعد مجموعة “تصبحون على خير” للكاتب التونسي إبراهيم الدرغوثي علامة فارقة في المشهد السردي التونسي المعاصر، إذ تتجاوز حدود المألوف لتقدم للقارئ تجربة أدبية فريدة تستكشف عمق النفس البشرية وتعقيدات الواقع. في هذا العمل، لا يكتفي الدرغوثي بسرد القصص، بل يعمد إلى تشريح الغرابة المتجذرة في نسيج المجتمع، محولاً إياها إلى عدسة نقدية تسلط الضوء على التحولات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية المتشابكة. إن الغرابة هنا ليست مجرد زينة سردية، بل هي عنصر أساسي يكشف عن طبقات أعمق من المعنى، ويعكس اضطراب الواقع وتناقضاته. إنها دعوة للقارئ للخوض في عوالم تبدو قريبة، لكنها تحتضن في طياتها ما هو غير متوقع، وما يثير الدهشة، بل وما يتحدى منطق الواقع المعتاد.

فلسفة الغرابة: ما وراء العجائب والخيال

قبل الغوص في تفاصيل المجموعة، من الضروري فهم مفهوم الغرابة في الأدب. إنها ليست مجرد ظاهرة سحرية أو خارقة، بل هي مفهوم متعدد الأوجه يمتد ليشمل ما هو غير متوقع، وما يفاجئ، وما يثير الدهشة. يمكن للغرابة أن تتجلى في تحويل المألوف إلى شيء غريب، أو في إظهار عناصر غير مألوفة في سياقات طبيعية. إنها دعوة للقارئ لتجاوز السطح، والتعمق في قراءة تجارب الإنسان المعقدة وتفاعلاته الحيوية مع العالم من حوله. تتطلب الغرابة قراءة لا تقف عند الظاهر، بل تبحث عن الأبعاد الخفية والمضمرات التي تشكل واقعنا. فالغرابة الأدبية ليست هروبًا من الواقع، بل هي وسيلة فعالة لرؤيته من زاوية مختلفة، ولتسليط الضوء على الجوانب التي قد تبدو عادية للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها أسرارًا ودلالات عميقة. إنها فن يعتمد على التلاعب بالتوقعات، وخلق مساحات من اللايقين تدفع القارئ إلى إعادة تقييم ما يعرفه وما يؤمن به.

تجلّيات الغرابة في “تصبحون على خير”: من اليومي إلى الأسطوري

تُبرع مجموعة “تصبحون على خير” في تقديم طيف واسع من مظاهر الغرابة، حيث ينجح إبراهيم الدرغوثي في نسج خيوط الواقع اليومي مع لمسات من الخيال الجامح، ليخلق عالماً يمزج بين ما هو ملموس وما هو مجرد. تعكس القصص في هذه المجموعة جذور الكاتب الثقافية، لا سيما البيئة البدوية التي شكلت وعيه، حيث تلعب الأساطير والحكايات الشعبية دوراً محورياً في تشكيل التصورات والمعتقدات. هذه البيئة الغنية بالتراث الشفهي والرموز الثقافية توفر أرضية خصبة لاستكشاف مظاهر الغرابة التي تتداخل فيها الخرافة بالواقع، والواقع بالخيال.

حوار الأضداد: عندما تتحدث الأموات للأحياء

من أبرز الأمثلة على هذا التداخل بين الأضداد، نجدها في قصة “أعشاش الحمام البري”. هنا، يتحاور البطل مع صورة والدته الراحلة المعلقة على الحائط. هذا المشهد، الذي يجسد التواصل بين عالم الموت وعالم الحياة، يكشف عن طبقة عميقة من الغرابة. إنه ليس مجرد حوار مع ذكرى، بل هو استعادة حية للحضور، وتجاوز للمسافة الزمنية والمكانية. هذا التحاور بين الحي والميت يبرز قدرة الإنسان على استعادة الماضي واستحضاره بطرق غير تقليدية، مما يضفي على القصة بعداً إنسانياً وفلسفياً عميقاً. هذه القدرة على تجاوز حدود الزمان والمكان، والتواصل مع من رحلوا، ليست مجرد استحضار عاطفي، بل هي تعبير عن ارتباط روحي عميق، وعن إيمان بأن الوجود لا ينتهي بالموت، بل يتحول إلى أشكال أخرى من الحضور.

فن التكرار: تحويل المألوف إلى مفارقة

يُعد التكرار أداة سردية فعالة في يد الدرغوثي، يستخدمها ببراعة لتحويل العناصر المألوفة إلى مصادر للغرابة والدهشة. في قصة “تفاح الجنة”، على سبيل المثال، يتجلى هذا الاستخدام للتكرار في تسليط الضوء على دوامة الأحداث المتشابهة والمعاناة الإنسانية المتجددة. كلما تكرر الفعل، كلما اكتسب طابعاً أكثر غرابة، محفزاً إدراك القارئ وداعياً إياه إلى التأمل في طبيعة الوجود الإنساني. هذا التكرار لا يهدف إلى الملل، بل إلى تعميق الشعور بالدهشة، وإبراز الفراغ أو العبثية التي قد تتخلل الحياة. إن تكرار المعاناة، أو تكرار الأخطاء، أو حتى تكرار اللحظات السعيدة، يصبح وسيلة للكشف عن نمطية الحياة، وعن الصعوبة التي يواجهها الإنسان في الخروج من دائرته المعتادة، حتى لو كانت هذه الدائرة مليئة بالألم.

استحضار الأرواح والغيبيات: الجسر بين الثقافة والواقع

تستحضر مجموعة “تصبحون على خير” الكائنات الخارقة، من أرواح وأشباح، كعناصر تعكس البنية الثقافية للمجتمع التونسي. هذه الكائنات ليست مجرد عناصر تزينية، بل هي رموز ثقافية تحمل معاني عميقة، وتدعو القارئ إلى التفكير في الأبعاد الخارقة للحياة، حيث تتداخل الأساطير مع الواقع المعاصر. ظهور الغول، على سبيل المثال، لا يمثل مجرد خوف تقليدي، بل هو رمز للغريب، للمجهول، للمرعب، مما يضفي على النص طابعاً من الإثارة والتشويق، ويدفع القارئ لاستكشاف ما وراء حدود الواقع الملموس. هذه الاستحضارات ليست مجرد فانتازيا، بل هي تعبير عن منظومة معتقدات متجذرة، وعن العلاقة المعقدة التي تربط الإنسان بالكون، وبالقوى التي قد تفوق فهمه.

الواقعية الغريبة: لمسة الدرغوثي المميزة

إن ما يميز أعمال إبراهيم الدرغوثي، وخاصة مجموعة “تصبحون على خير”، هو ما يمكن تسميته بـ “الواقعية الغريبة”. هذه الرؤية الأدبية تقترب بشكل لافت من الأحداث الصادمة والمواقف غير الاعتيادية التي قد تحدث في الحياة اليومية. ففي قصص مثل تلك التي تتناول حالات المرض والمواقف الغريبة التي يواجهها الأفراد، يسلط الكاتب الضوء على الأبعاد النفسية والاجتماعية المعقدة لهذه التجارب. الواقع هنا ليس مجرد خلفية للأحداث، بل هو بحد ذاته مصدر للغرابة، حيث تتكشف التناقضات والصراعات الإنسانية في أشد صورها. إنها واقعية لا تخشى الغوص في أعماق النفس البشرية، ولا تتردد في كشف النقاب عن الأوجه المظلمة والمربكة للوجود الإنساني، مقدمةً بذلك رؤية فريدة وعميقة للعالم.

خاتمة: “تصبحون على خير” – رحلة في عوالم القلق الإنساني

في الختام، تمثل مجموعة “تصبحون على خير” رحلة استكشافية في عوالم الغرابة التي تتغلغل في نسيج الحياة التونسية. من خلال هذه المجموعة، يجسد إبراهيم الدرغوثي ببراعة قلق الإنسان وفوضاه، مؤكداً أن الغرابة ليست مجرد تفاصيل سردية عابرة، بل هي جزء حيوي من فهم تعقيدات الحياة. إنها تظهر كيف يمكن للعناصر التي تبدو بسيطة أو مألوفة أن تتحول إلى ثيمات متشعبة ومعقدة، تعكس واقعاً مضطرباً ومتغيرًا. يثبت هذا العمل مرة أخرى أن الأدب يمتلك القدرة على تقديم تجارب فريدة تثير التفكير، وتفتح الأبواب لعوالم خفية تتجاور فيها الحياة والموت، الواقع والخيال، تاركةً أثراً عميقاً في نفس القارئ وإدراكه للعالم. إنها دعوة للتأمل في هشاشة الوجود، وقدرة الإنسان على التكيف مع ما هو غير متوقع، بل واحتضان الغرابة كجزء لا يتجزأ من رحلته الإنسانية.

الأكثر بحث حول "مجموعة تصبحون ع خير"لا توجد كلمات بحث متاحة لهذه الكلمة.

اترك التعليق