قصه سعد بن معاذ رضي الله عنه

كتبت بواسطة نجلاء
نشرت بتاريخ : الجمعة 7 نوفمبر 2025 - 6:10 مساءً

سعد بن معاذ: سيّد الأوس وسفير الحق في المدينة المنورة

في صفحات التاريخ الإسلامي المشرقة، تتلألأ أسماء عظيمة كأنجم في سماء الإيمان، ومن بين هؤلاء الأبطال الذين نقشوا أسماءهم بأحرف من نور، يبرز الصحابي الجليل سعد بن معاذ – رضي الله عنه وأرضاه -. لم يكن سعد مجرد فرد عادي في مجتمع المدينة المنورة، بل كان سيدًا لقومه، وركيزة من ركائز قبيلة الأوس، وشخصية محورية لعبت دورًا حاسمًا في ميلاد الدولة الإسلامية وتوطيد أركانها. إن قصة سعد بن معاذ هي قصة ولاء، وإيمان راسخ، وشجاعة لا تلين، وبصيرة نافذة، وتضحية خالصة لله ورسوله.

نشأته وبداياته مع الإسلام

وُلد سعد بن معاذ في المدينة المنورة، ونشأ في بيت عريق من بيوت قبيلة الأوس. قبل قدوم الإسلام، كانت قبيلتا الأوس والخزرج تعيشان في صراعات مريرة، وكانت الأحقاد تتوارث بين الأجيال. كان سعد شخصية مرموقة في قومه، يتمتع بالحكمة والقيادة، وله كلمة مسموعة. وعندما بزغ نور الإسلام على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكن سعد من أوائل الذين اعتنقوا هذا الدين الجديد، بل كان ينتظر بوعي وترقب.

جاء إسلام سعد بن معاذ بمثابة نقطة تحول هامة في تاريخ المدينة. عندما قدم مصعب بن عمير – رضي الله عنه – إلى المدينة داعيًا إلى الإسلام، بدأ ينشر تعاليمه بين الناس. سمع سعد عن الدعوة الجديدة، وشعر ببعض الغرابة تجاهها، ولكنه لم يكن ممن يرفضون الحق قبل البحث عنه. يروى أن سعدًا، وكان آنذاك سيد قومه، قد رأى مصعب بن عمير وهو يدعو الناس، فذهب إليه متألمًا لما يحدث في قومه من انقسامات، وسأله عن دينه. استمع سعد إلى مصعب، وتلى عليه بعض آيات القرآن الكريم، فشرح الله صدر سعد للإسلام، وأسلم على يد مصعب بن عمير.

تأثير إسلام سعد على قبيلة الأوس

كان إسلام سعد بن معاذ حدثًا جللًا، فقد كان قومه يرون فيه القدوة والمثل الأعلى. بمجرد أن أسلم، دعا قومه إلى الإسلام، وكان له عليهم سلطان كبير. فاستجاب له أغلب قبيلة الأوس، وأسلموا بفضل دعوته وجهاده الدعوي. هذا التحول الكبير في ولاء قبيلة الأوس كان له أثر عظيم في موازين القوى داخل المدينة، وأصبح للإسلام موطئ قدم قوي، مما مهد الطريق لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

دور سعد في غزوات المسلمين

لم يكن سعد بن معاذ رجل معارك فقط، بل كان رجل دولة ومبدأ. شارك في العديد من الغزوات التي خاضها المسلمون لنصرة الحق والدفاع عن الدين. كانت له بصمات واضحة في غزوة بدر الكبرى، حيث أظهر شجاعة فائقة، وثباتًا لا مثيل له في وجه الأعداء. وفي غزوة أحد، أبلى بلاءً حسنًا، وكان من الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم عندما اختل صف المسلمين.

لكن دوره الأبرز كان في غزوة الخندق (الأحزاب). حيث كان سعد من أبرز القادة الذين شاركوا في حفر الخندق، الذي كان خط الدفاع الأول عن المدينة. كما كان له دور فعال في استطلاع أخبار الأحزاب، وفي قيادة بعض الفرق المقاتلة. شهدت هذه الغزوة اختبارًا قاسياً لإيمان المسلمين، وكان سعد بن معاذ من الذين أثبتوا صلابتهم وثباتهم.

تحكيم سعد في بني قريظة

لعل أبرز المواقف التي خلدت اسم سعد بن معاذ في التاريخ الإسلامي هو تحكيمه في قضية بني قريظة. بعد انتهاء غزوة الخندق، ونقض بني قريظة عهدهم مع المسلمين وتحالفهم مع الأحزاب، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتوجه إلى حصون بني قريظة لقتالهم. ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيه في تحكيم رجل منهم، فاقترح المسلمون أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، لما له من مكانة لدى الفريقين، ولأن بني قريظة كانوا حلفاء للأوس.

وافق سعد على التحكيم، وكان في تلك الأثناء مصابًا بجرح غائر أصابه في غزوة الخندق. أتى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد له النبي بالفضل، وقال: “أوشك أن يأتي لأمر الله”. وعندما وصل سعد إلى بني قريظة، أمرهم أن يقبلوا بحكمه، فوافقوا، معلنين أنهم سيرضون بحكمه. ثم أتى سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقبله النبي بفرح، وسأله عن حكمه. فقال سعد: “إني أحكم فيهم أن يقتل رجالهم، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، وتقسم أموالهم”.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة”. بهذا الحكم، حكم سعد بن معاذ بما كان مقدرًا في علم الله، وبما تقتضيه مصلحة الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، لتأمينها من الخيانة الداخلية.

وفاة سعد بن معاذ واستقباله في السماء

لم يدم سعد بن معاذ طويلاً في الدنيا بعد هذا الموقف العظيم. فقد كان جرحه الذي أصابه في الخندق عميقًا، وبدأ المرض ينهك جسده. وعندما شعر بدنو أجله، سأل عن مكان النبي صلى الله عليه وسلم. ذهب النبي إليه، وجلس بجانبه، ودعا له.

وقد روى الصحابة الكرام عن شدة اهتزاز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ. فقد جاء في الحديث الشريف: “اهتز العرش لموت سعد بن معاذ”. وعندما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب اهتزاز العرش، قال: “اهتز العرش لموته”. وبشر النبي الصحابة برفع روح سعد إلى السماء، قائلاً: “هذا الذي اهتز له عرش الرحمن”.

توفي سعد بن معاذ – رضي الله عنه – في السنة الخامسة للهجرة، بعد غزوة الخندق. لقد كان موته خسارة عظيمة للمسلمين، ولكنه ترك وراءه سيرة عطرة، ومواقف خالدة، ودروسًا في الإيمان والشجاعة والولاء.

خاتمة: إرث سعد بن معاذ

إن قصة سعد بن معاذ – رضي الله عنه – ليست مجرد سرد لتاريخ رجل عظيم، بل هي منهج حياة، ودليل على أن الإيمان الحق والولاء الصادق يمكن أن يصنعا أبطالًا يغيرون مجرى التاريخ. لقد كان سعد رمزًا للصحابة الذين ضحوا بكل شيء من أجل رفعة الإسلام، وكان مثالًا للقائد الذي يحكم بالعدل، ويقدم مصلحة الأمة على أي اعتبار آخر. إن تذكر سيرته العطرة هو تذكير لنا بمسؤولياتنا تجاه ديننا وأمتنا، ودعوة لنا للاقتداء به في إيمانه وثباته وشجاعته.

اترك التعليق