جدول المحتويات
قصة موسى والخضر: رحلة البحث عن الحكمة الإلهية
في رحاب التنزيل الإلهي، تتجلى لنا قصص الأنبياء والمرسلين كمنارات هداية، تحمل في طياتها دروساً لا تُحصى، وتُلقي بظلالها على مسالك الحياة، مُرشدةً القلوب إلى سواء السبيل. ومن بين هذه القصص الخالدة، تقف قصة نبي الله موسى عليه السلام مع الرجل الصالح الذي اصطفاه الله، المعروف في التراث الإسلامي بـ “الخضر”، كنموذج فريد للتواضع، والبحث الدؤوب عن الحكمة، والاعتماد على العلم اللدني الذي يمنحه الله لمن يشاء من عباده. هذه القصة، المذكورة في سورة الكهف، ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي رحلة عميقة في فهم تدبير الله، وتقبّل أسراره، وإدراك أن ما يبدو ظاهره شراً قد يخفي في طياته خيراً عظيماً.
اللقاء الموعود: بداية رحلة العلم
بدأت القصة حين أذن الله لنبيه موسى عليه السلام بلقاء رجل آتاه الله علماً خاصاً، علماً لا يُدرك بالعقل البشري وحده، بل بالعلم الذي يهبه الله من لدنه. كان موسى، رغم مكانته العظيمة كنبي وكليم الله، يحمل بداخله شغفاً عظيماً بالعلم والمعرفة. وعندما سمع عن هذا الرجل الصالح، قرر أن يشد الرحال إليه، مُتجاوزاً الصعاب والمشقات، ليبحث عن المزيد من الفهم لطبيعة الحياة وتدبير الخالق. لقد دلّته الآيات القرآنية على المكان الذي سيلتقي فيه بالخضر، وهو مكان محدد عند صخرة عظيمة، حيث أمر موسى أن يفقد حوته، فإذا فقد الحوت سبيله، كان ذلك علامة اللقاء.
التحدي الأول: فهم ما وراء الظاهر
وصل موسى إلى المكان الموعود، ووجد الرجل الصالح الذي وصفه الله في كتابه. وعندما التقيا، لم يبدأ الخضر بتعليم موسى مباشرة، بل أمره موسى باتباعه، ووعده بأن يتعلم منه مما علمه الله. وهنا بدأت الرحلة الفعلية، وبدأ الخضر في فعل أشياء بدت لموسى، في ظاهره، أموراً مخالفة للعقل والمنطق، بل وحتى الظلم.
أول هذه الأمور كان سفينة كان يستقلها مجموعة من الناس الأغنياء، فقام الخضر بثقبها. وهنا لم يتمالك موسى نفسه، فعاتب الخضر بشدة، قائلاً: “أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا”. لقد كان موقف موسى طبيعياً من منظور بشري، حيث رأى في فعل الخضر اعتداءً صريحاً على مال هؤلاء الناس وسلامتهم. لكن الخضر، بعلمه الإلهي، صبر على موسى، ودعاه إلى التذكر بأنه لم يفعل ذلك عن هوى، بل بأمر من الله، ثم وعده بتوضيح الأمر لاحقاً.
التحدي الثاني: رحمة في طيات الغضب
لم تمضِ الأمور طويلاً حتى صادف موسى والخضر غلاماً، فقام الخضر بقتله. وهنا بلغ صبر موسى منتهاه، فوبخه بشدة، مستنكراً هذا الفعل الذي بدا له بالغ القسوة والظلم: “أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا”. كان هذا الفعل أشد وطأة على موسى من الفعل الأول، فهو يمثل اعتداءً على حياة بريئة. لكن الخضر، مرة أخرى، طلب من موسى الصبر، وأوضح له أن هذا الغلام لو عاش لكان سبباً في طغيان والديه وكفرهما، وأن قتله كان رحمة لهما، ومنعاً لشر عظيم كان سيقع.
التحدي الثالث: العطاء الذي يخفي جزاءً
ثم استمرت الرحلة، حتى وصلا إلى قرية، وطلبا من أهلها طعاماً، لكنهم أبوا أن يضيفوهما. وفي هذه القرية، وجد الخضر جداراً يريد أن ينقض، فقام بإصلاحه. هذا الفعل بدا لموسى غريباً جداً؛ فالقرية رفضت مساعدتهما، ومع ذلك قام الخضر بإصلاح جدارهم دون مقابل. عاتب موسى الخضر مرة أخرى، قائلاً: “لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا”. كان موسى يرى أن من حقهم أن يأخذوا أجراً على هذا العمل، خاصة وأن أهل القرية لم يكونوا كراماً معهم.
كشف الأسرار: الحكمة الإلهية تنجلي
عندما رأى الخضر إلحاح موسى في السؤال والعتاب، قرر أن يكشف له عن بواطن الأمور التي فعلها، وأن يوضح له الحكمة الإلهية من وراء كل فعل. هنا انجلت الحقيقة لموسى، وأدرك عمق العلم اللدني الذي يملكه الخضر.
أما عن السفينة، فقد أوضح الخضر أن ثقب السفينة كان لحمايتها من الملك الظالم الذي كان يأخذ كل سفينة صالحة غصباً. فبإفساد السفينة، أصبحت غير صالحة للاستيلاء عليها، وبذلك نجا أصحابها من ظلم هذا الملك.
وأما عن الغلام، فقد بين الخضر أن الله قد علم أنه سيصبح كافراً طاغياً، وسيُرهق والديه بكفره وطغيانه، وأن قتله كان رحمة لهما، حيث سيُبدلهما الله به خيراً منه، ولداً صالحاً، وأقرب رحمة.
وأما عن الجدار، فقد أشار الخضر إلى أن تحت هذا الجدار كنزاً مدفوناً ليتيمين صغيرين، وكان والدهما رجلاً صالحاً. فالله أراد أن يحفظ هذا الكنز لليتيمين حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما. فإصلاح الجدار كان حفظاً لهذا الكنز من الضياع، وهو عين الرحمة باليتيمين.
العبرة العظيمة: التسليم والرضا بقضاء الله
تتجلى في هذه القصة عبر كثيرة، لعل أهمها هو **التسليم المطلق لقضاء الله وحكمته**. فموسى، الذي هو نبي كريم، لم يستطع أن يدرك الحكمة الإلهية من وراء أفعال الخضر بمجرد علمه البشري. لقد كان بحاجة إلى التوجيه الإلهي والتعلم من عالم لدني ليفهم أن ظواهر الأمور قد تخفي حقائق أعمق.
تعلمنا القصة أن **ما نراه شراً قد يكون في حقيقته خيراً، والعكس صحيح**. فثقب السفينة بدا شراً، ولكنه كان سبباً في نجاتها. وقتل الغلام بدا قتلاً، ولكنه كان رحمة. ورفض الإضافة بدا بخلاً، ولكنه كان سبباً في حفظ كنز لليتيمين. هذا يدعونا إلى **توسيع مداركنا، وعدم التسرع في الحكم على الأمور أو الأشخاص، والرضا بما يقضي الله، لأن علمنا قاصر وعلم الله شامل**.
كما تُظهر القصة **أهمية طلب العلم والسعي للمعرفة، حتى لمن بلغ مكانة عظيمة**. فموسى، رغم أنه كليم الله، لم يتردد في السفر والتواضع ليتعلم ممن آتاه الله علماً لم يكن عنده. وهذا يُعلمنا أن باب العلم لا يُغلق أبداً، وأن التواضع في طلب العلم هو مفتاح تحصيله.
في الختام، تظل قصة موسى والخضر درساً خالداً للأمة الإسلامية، تُذكرنا بأن الله عليم حكيم، وأن تدبيره أحسن التدبير، وأن علينا أن نثق به، ونسلم له، ونطلب منه المزيد من العلم والفهم، وأن نوقن بأن وراء كل قدر خير، حتى لو لم ندركه في حينها.
