جدول المحتويات
التسامح: نبراس النبوة في واقع الحياة
لطالما كانت سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم منارة يهتدي بها المسلمون في دروب الحياة، فهي ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي دروس عملية تتجلى فيها أسمى معاني الإنسانية. ومن بين هذه الدروس، يبرز التسامح كصفة جوهرية، سُطرت أروع صورها في مواقف كثيرة، تركت أثراً عميقاً في قلوب وعقول من عاصروه، وما زالت تلهم الأجيال المتعاقبة. إن التسامح الذي جسده الرسول لم يكن ضعفاً أو استسلاماً، بل كان قوة حكيمة، وعزيمة صلبة، ورحمة واسعة، أثبتت أن العفو عند المقدرة هو قمة النبل والشرف.
قصة الطائف: ابتلاءٌ أثمر تسامحاً
من أشد المواقف التي تجلت فيها عظمة تسامح الرسول، ما حدث له في مدينة الطائف. فقد توجه إليها طلباً للنصرة والدعم بعد أن اشتدت أذى قريش في مكة. ورغم ما لاقاه من صدود وإعراض، بل وتطاول وصل إلى حد رميه بالحجارة وإيذاء جسده الشريف، إلا أن رد فعله كان نموذجاً للتسامح المطلق. حينما نزل جبريل عليه السلام، وعرض عليه أن يطبق عليهم الأخشبين (جبلي مكة) جزاءً بما فعلوا، رفض الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بشدة، قائلاً: “بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً”. هذا الرفض لم يكن وليد اللحظة، بل كان نابعاً من رؤية أوسع، وإيمان عميق بأن الهداية أسمى من الانتقام، وأن الرحمة قد تفتح قلوباً أغلقت. لقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم طريق الدعوة والإصلاح، مؤمناً بأن الوقت والجهد المبذول في سبيل الهداية لهما أجر عظيم، وأن التسامح يفتح أبواباً للخير قد لا تفتحها الشدة.
العفو عند المقدرة: قمة النبل الأخلاقي
لم يقتصر تسامح الرسول على المواقف الصعبة كقصة الطائف، بل تجلى في كثير من الأحداث اليومية. ولعل أشهرها وأعظمها هو فتح مكة. بعد سنوات من الأذى والاضطهاد، وبعد أن تغلبت جيوش المسلمين على أعدائهم، وقف الرسول صلى الله عليه وسلم أمام أهل مكة الذين طالما آذوه، وهو في قمة القدرة والقوة. كان بإمكانه أن ينتقم، أن يعاقب، أن يقتص ممن سلبوا حقه، ومن سعوا في تدميره. ولكن ما حدث كان مفاجأة عظيمة، بل وأعجازاً أخلاقياً. سألهم: “ما تظنون أني فاعل بكم؟” فأجابوا: “خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم”. عندها قال لهم كلمته الخالدة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. لقد أعتقهم جميعاً، وألغى كل آثار العداء والانتقام. هذا العفو الشامل، الذي لم يستثنِ أحداً ممن آذوه، كان رسالة قوية للعالم أجمع، مفادها أن الإسلام دين رحمة وتساهل، وأن التسامح عند المقدرة هو قمة النبل الإنساني.
تسامحٌ يتجاوز الأفراد إلى المجتمعات
لم يكن تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد سلوك فردي، بل امتد ليشمل بناء مجتمع قائم على العدل والرحمة. فقد كان يتعامل مع أعدائه السابقين بروح جديدة، يفتح لهم قلبه، ويدعوهم إلى الإسلام، ويسعى لدمجهم في المجتمع الجديد. حتى أولئك الذين ارتكبوا جرائم بشعة، كأكلة الأكباد، مثل هند بنت عتبة، عفا عنهم في فتح مكة، وسمح لهم بالانضمام إلى قافلة الإسلام. هذا التسامح المجتمعي لم يكن يعني نسيان الجرائم، بل كان يعني بناء مستقبل أفضل، وإزالة الحواجز، وخلق بيئة يمكن فيها للجميع العيش بسلام. كان الرسول يدرك أن التسامح هو الأساس المتين لبناء الألفة والمحبة، وأن إغلاق أبواب الماضي وفتح أبواب المستقبل هو السبيل الأمثل لتحقيق الاستقرار والازدهار.
دروسٌ خالدة للأجيال
إن قصة تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مجرد حكاية من الماضي، بل هي دستور حياة، ومنهج عمل لكل من يسعى إلى تحقيق السلام الداخلي والخارجي. في عالم اليوم الذي يزداد تعقيداً، وتتزايد فيه أسباب الخلاف والنزاع، تصبح دروس التسامح التي جسدها الرسول أكثر إلحاحاً وأهمية. فالتسامح مع الآخرين، سواء كانوا مختلفين معنا في الدين أو العرق أو الفكر، هو مفتاح التعايش السلمي. إنه القدرة على رؤية الإنسانية المشتركة، والتركيز على نقاط الالتقاء بدلاً من الاختلافات. إن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بتسامحه اللامحدود، قدم للعالم نموذجاً رفيعاً، يجسد كيف يمكن للقوة أن تتجسد في الرحمة، وكيف يمكن للعفو أن يكون أعظم انتصار.
