جدول المحتويات
التسامح في الإسلام: قصة قصيرة عبر التاريخ
لطالما كان التسامح قيمة إنسانية رفيعة، تجلت أسمى صورها وأعمق معانيها في تعاليم الإسلام. لم يكتفِ الإسلام بترسيخ هذه القيمة في النفوس، بل أرشد المسلمين إلى تطبيقها في مختلف جوانب الحياة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي. ومن بين صفحات التاريخ المضيئة، تتجلى لنا قصص رائعة تسطر بمداد من ذهب معاني العفو والصفح، وتؤكد أن التسامح ليس ضعفًا، بل هو قوة عظيمة تنبع من إيمان راسخ وثقة بالله.
الرجل الذي وجد السلام في العفو
في مدينة يثرب، قبل البعثة النبوية بسنوات، كان يعيش رجل يدعى “زيد بن سعنة”. كان زيد يهوديًا، معروفًا بتمسكه بدينه وبشدة حذره من المسلمين الجدد. سمع زيد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعن تعاليمه التي انتشرت في المدينة، فأثار ذلك فضوله ورغبته في لقائه. لم يكن دافعه الإيمان، بل كان دافعه الشك والبحث عن أي ثغرة أو خطأ قد يثبت به عدم صحة رسالته.
في أحد الأيام، بينما كان زيد يتجول في السوق، رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أصحابه. توجه نحوه بخطوات واثقة، وفي يده تمر يمني فاخر، كان قد اشتراه ليفطر به. اقترب زيد من النبي، وقبل أن يتكلم، أمسك بردائه بقوة وجذبه إليه. كانت تلك الحركة مفاجئة وقاسية، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان حاضرًا، غضب بشدة وكاد أن يوقع به أذى. لكن النبي صلى الله عليه وسلم، بابتسامته الهادئة وحكمته البالغة، رد عمر قائلاً: “يا عمر، أنا وهو أحق بغير هذا، أن تأمرني بحسن الطلب، وتأمره بحسن التباع. اذهب يا عمر، فاشترِ له تمرًا واشترِ له طعامًا، وأحسن إليه.”
مفاجأة اللطف والرحمة
لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم برد عمر، بل استجاب لطلب زيد بأن يبيع له تمرًا بسعر مؤجل. وعندما حان موعد السداد، جاء زيد إلى النبي مرة أخرى، وجذبه بنفس القوة، وطالبه بحقه. مرة أخرى، أظهر النبي صلى الله عليه وسلم نفس الهدوء والرحمة، وأمر أصحابه بتسديد الدين، بل وزادوا عليه بعض التمر كهدية.
في هذه اللحظة، شعر زيد بن سعنة بشيء غريب يجتاح قلبه. لم يكن يتوقع كل هذا اللطف والرحمة من شخص أتى ليطالبه بحقه. لقد سمع الكثير عن محمد صلى الله عليه وسلم، وعن أخلاقه العالية، لكن رؤية التسامح المطلق والعفو الكريم في موقف كهذا، هزت كيانه. لم يجد في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم أي أثر للانتقام أو الغضب، بل وجد فيه رحمة واسعة وإنسانية لا حدود لها.
إسلام يؤسس على التسامح
قال زيد بن سعنة للنبي صلى الله عليه وسلم: “يا محمد، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.” ثم أردف قائلًا: “كنت قد جئت إلى محمد لأختبره، لأرى صفاته، فما تركت شيئًا من علامات النبوة إلا بحثت عنها، حتى عرفت كل علامات النبوة من تصديق القول، وكتمان السر، وعكس القول، ورؤية المنكبين، وخاتم ما بين الكتفين. فإذا هذا كله في محمد. وما كان من أمره أني جئت إليه، وجذبته بردائه، وهذا شيء من شدة ما كنت فيه من اتباع موسى، وتكذيب محمد. فلما رأيت يا محمد ما لقيت منك، علمت أن هذا نبي، لأنك لم تزِدْني إلا جهلاً. ثم قرأت في التوراة صفة محمد، فصدقتُ به، ثم رأيتُ صفته هذه، فكانت من أشد ما كان من علامات صدقه. فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله.”
لقد كان إسلام زيد بن سعنة درسًا بليغًا في قوة التسامح. لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليقدر على كسب قلب زيد لولا رحمته وعفوه. هذه القصة تجسد مبدأ أساسيًا في الإسلام: “ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”.
نماذج أخرى للتسامح في الإسلام
لم تكن قصة زيد بن سعنة حادثة فردية، بل هي نموذج لتسامح تجلى في كثير من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. نتذكر فتح مكة، حيث أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم آذوه، وسفهوا دعوته، واضطهدوا أتباعه، ولم يتوانَ عن العفو العام، قائلاً: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. هذا العفو الشامل لم يكن ضعفًا، بل قوة وثقة بالنفس، وقدرة على تجاوز الأحقاد والمغريات، ورغبة في بناء مجتمع تسوده المحبة والوئام.
تتجلى روح التسامح أيضًا في تعامل المسلمين مع أهل الكتاب. ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، كان لأهل الأديان الأخرى حقوق وواجبات، وكان لهم أن يعيشوا في ظل الحكم الإسلامي بأمان، وتم احترام دور عبادتهم ومعتقداتهم. قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، وهي آية تؤسس لمبدأ حرية الاعتقاد، الذي هو جوهر التسامح.
التسامح كقوة بناءة
في عالمنا المعاصر، الذي يشهد الكثير من الصراعات والنزاعات، تبرز الحاجة إلى التسامح كقوة بناءة تسهم في تحقيق السلام والوئام. إن التسامح في الإسلام ليس مجرد سلوك فردي، بل هو منهج حياة، وركيزة أساسية لبناء المجتمعات القوية والمتماسكة. عندما نسامح، فإننا لا نمنح الطرف الآخر فرصة للثواب، بل نمنح أنفسنا راحة البال والسكينة، ونساهم في إطفاء نار الفتنة وإشعال شمعة المحبة.
إن قصة زيد بن سعنة، وغيرها الكثير من القصص التي تزخر بها كتب السيرة والتاريخ الإسلامي، تعلمنا أن التسامح هو الطريق إلى القلوب، وهو السلاح الأقوى في مواجهة العداوات. إنه دعوة دائمة للتأمل في عظمة الرحمة الإلهية، والتأسي بأخلاق سيد الخلق، محمد صلى الله عليه وسلم، لنجعل من حياتنا شاهدًا على قوة التسامح في الإسلام.
