قصة قصيرة عن التسامح

كتبت بواسطة admin
نشرت بتاريخ : الثلاثاء 4 نوفمبر 2025 - 10:25 مساءً

في قلب مدينة تتنفس عبق التاريخ، حيث تمتزج حاراتها الضيقة بأصداء القصص المتوارثة، عاش رجلان، كلٌ منهما يمثل عالماً مختلفاً. كان أحدهما، السيد أحمد، يملك دكاناً صغيراً للأدوات المنزلية، اشتهر بصدقه ومعاملته الحسنة مع الجميع. والآخر، السيد خالد، كان يمتلك متجراً للملابس الفاخرة في الطرف الآخر من السوق، وكان معروفاً بأسلوبه الحازم وطموحه الذي لا يعرف الكلل. جمعتهما الأقدار في مساحة السوق المزدحمة، لكن رياح الخلاف كانت تهب بينهما منذ سنوات طويلة، بسبب نزاع قديم حول قطعة أرض متنازع عليها تفصل بين متجريهما.

بدأ الخلاف بسيطاً، مجرد كلمات جارحة هنا وهناك، وتصرفات تقلل من شأن الآخر. لكن مع مرور الوقت، تحول هذا النزاع إلى جدار سميك من العداء، يمنع أي تواصل إيجابي بينهما. كان السيد أحمد يتجنب المرور أمام متجر السيد خالد، وكان الأخير يغض طرفه عن كل ما يتعلق بجاره القديم. كان السوق بأسره يشهد على هذا الصراع الصامت، والناس يتهامسون عن السبب الحقيقي الذي أشعل فتيل العداء بين رجلين كانا في يوم من الأيام زملاء سوق.

في إحدى ليالي الشتاء القارس، ضربت المدينة عاصفة هوجاء لم تشهد مثلها منذ عقود. الرياح تعوي والأمطار تغرق الشوارع، والظلام يفرض سيطرته على كل شيء. في خضم هذه الفوضى الطبيعية، اندلع حريق مفاجئ في أحد المباني القديمة وسط السوق، وامتد بسرعة البرق إلى الدكاكين المجاورة. في لحظات، تحول جزء من السوق إلى كتلة من اللهب والدخان، وحاول الناس إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

كان منزل السيد أحمد يقع في الطابق العلوي لأحد المباني المجاورة لمتجره. وبينما كان يحاول إطفاء النيران التي بدأت تتسرب إلى شقته، انقطع به التيار الكهربائي، وأصبح الدخان الكثيف يحجب الرؤية ويصعب التنفس. في تلك اللحظة العصيبة، وبينما وصل إليه اليأس، رأى عبر نافذة شقته المشتعلة، السيد خالد، جاره اللدود، يندفع بخطى سريعة نحو المبنى، يحمل على كتفه سلماً معدنياً طويلاً.

لم يتردد السيد خالد لحظة واحدة. رغم الخطر الداهم، رغم الأدخنة المتصاعدة، رغم ألسنة اللهب التي كانت تتراقص بغضب، تسلق السلم بسرعة مذهلة ووصل إلى نافذة شقة السيد أحمد. مد يده بقوة، وأشار إليه بالخروج. تردد السيد أحمد للحظة، لم يصدق ما يراه. الرجل الذي عامله بالجفاء لسنوات، الرجل الذي كان يراه عدواً، يقف الآن على بعد خطوات تحول دون موته. ثم، مد يده، وأمسك بيد السيد خالد.

بمساعدة السيد خالد، تمكن السيد أحمد من النزول بسلام إلى الشارع المليء بالناس المذعورين. وعندما وطأت قدماه الأرض، نظر إلى السيد خالد، وامتلأت عيناه بدموع لم تعبر عن الحزن، بل عن امتنان عميق وشيء أكبر من ذلك بكثير.. شيء يشبه الفهم. لم تكن هناك كلمات، فقط نظرة صادقة، تعبر عن التقدير، وعن بداية شيء جديد.

في الأيام التالية، وبعد أن هدأت العاصفة وانحسرت ألسنة اللهب، بدأ السوق يعيد ترتيب أوراقه. كان دكان السيد أحمد قد لحق به ضرر بالغ، لكن الأهم أنه كان بخير. في أحد الأيام، وبينما كان السيد أحمد يقف أمام بقايا محله، رأى السيد خالد يقترب منه. توقع حديثاً عن الخسائر، أو ربما عن إعادة البناء، لكن ما سمعه لم يكن متوقعاً على الإطلاق.

يا أخ أحمد، قال السيد خالد بصوت هادئ، لقد رأيت ما حدث. لم يعد من المفيد أن نستمر في هذا الخلاف. لقد تعلمنا درساً قاسياً هذه الليلة. لنذهب ونغلق ملف تلك الأرض، ونبدأ من جديد. ربما يمكننا أن نبني شيئاً مشتركاً، أو على الأقل نعيش بجوار بعضنا البعض بسلام.

شعر السيد أحمد بانشراح غريب. لقد كان لهذا الموقف القاسي أثر عميق عليه، أثر جعل الخلاف القديم يبدو تافهاً وباهتاً. أتفق معك تماماً يا أخ خالد، أجاب السيد أحمد بابتسامة بدأت ترتسم على محياه. لقد طال أمد هذا العداء، وكان علينا أن ندرك قيمة ما هو أهم منذ زمن بعيد. التسامح هو الطريق الوحيد للنجاة.

ومنذ ذلك اليوم، تغير كل شيء. لم يعد السوق مجرد مكان للتجارة، بل أصبح رمزاً للتعايش والتسامح. أغلق الرجلان ملف النزاع القديم، وبدلاً من بناء جدار من العداء، بنيا جسراً من الاحترام المتبادل. كانا يلتقيان الآن كل صباح، يتشاركان فنجان القهوة، ويتناقشان في أمور السوق، بل ويتعاونان في بعض الأحيان. لقد أثبتت تلك الليلة المظلمة أن أعظم قوة ليست في القتال، بل في القدرة على نسيان الأخطاء، والغفران، والنهوض من جديد.

كانت القصة التي رويت في ذلك السوق، تتجاوز مجرد خلاف بين جارين، لتصبح حكاية عن قوة التسامح التي يمكن أن تحول العداوة إلى صداقة، والظلام إلى نور، والخسارة إلى بداية جديدة. وتعلم الجميع، من السيد أحمد والسيد خالد إلى أصغر طفل في الحارات، أن القلب المتسامح هو أثمن ما يملك الإنسان، وأن الغفران هو مفتاح السلام الداخلي والسعادة الحقيقية. لقد علمهم الحريق أن الحياة قصيرة وهشة، وأن استثمار طاقتنا في الكراهية هو تبديد لذلك الوقت الثمين. وبالمقابل، فإن بذل جهد صغير في طريق التسامح، يمكن أن يزهر حياة كاملة من الود والتقدير.

اترك التعليق