جدول المحتويات
قصة فرعون في القرآن: عبرة الطغيان والنهاية المهينة
في رحاب القرآن الكريم، تتجلى قصص الأنبياء والأمم السابقة كدروس خالدة، لا تزال أصداؤها تتردد في أرجاء الزمان والمكان. ومن بين هذه القصص، تبرز قصة فرعون وقومه كنموذج صارخ للطغيان والاستكبار، وكتحذير أبدي لمن ينسون خالقهم ويتجبرون على عباده. إنها قصة تتجاوز حدود الزمان والمكان، لتقدم للبشرية جمعاء درساً في قوة الحق، وضعف الباطل، وحتمية العاقبة.
موسى وفرعون: الصراع بين الإيمان والطغيان
بدأت القصة ببعثة النبي موسى عليه السلام، الذي اختاره الله تعالى ليكون رسولاً إلى بني إسرائيل، وليخرجهم من أرض مصر التي استعبدهم فيها فرعون وجبروته. كان فرعون، كما وصفه القرآن الكريم، رمزاً للتسلط والقوة الغاشمة، يرى نفسه إلهاً لا يُعلى عليه، ويستبيح دماء وأموال بني إسرائيل. لقد بلغ به الغرور والكبرياء حد الادعاء بأنه رب العالمين، حيث قال لقومه: “مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي” (القصص: 38). هذا الادعاء السافر كان قمة التحدي لسلطان الله وقدرته المطلقة.
رسالة موسى ودعوة الحق
عندما أرسل الله موسى عليه السلام بدعوته، كان الهدف الأساسي هو توحيد الله، والتحرر من عبودية فرعون، والعودة إلى فطرة الإنسان السليمة. حمل موسى، مدعوماً بأخيه هارون، رسالة الحق، وبدأ يدعو فرعون وقومه إلى عبادة الله الواحد الأحد. لم تكن دعوة موسى مجرد كلام، بل كانت مدعومة بالآيات البينات والمعجزات العظيمة، وعلى رأسها عصاه التي تتحول إلى حية تسعى، ويده التي تخرج بيضاء من غير سوء.
تحديات موسى ومكائد فرعون
واجه موسى عليه السلام من فرعون وقومه سخرية واستهزاءً، وتكذيباً صريحاً. لم يكتفِ فرعون برفض الدعوة، بل زاد في طغيانه وتكبره، واتهم موسى بالسحر والجنون. لقد كان فرعون يرى في دعوة موسى تهديداً لسلطته ونفوذه، ولذلك سعى بكل الطرق إلى إخماد صوت الحق. تارةً كان يتحدى موسى بالبراهين والمعجزات، وتارةً أخرى كان يلجأ إلى التهديد والوعيد، محاولاً كسر عزيمة موسى ومن معه.
الآيات البينات والمعجزات العظيمة
لقد أيد الله تعالى نبيه موسى بالعديد من الآيات البينات التي كانت حججاً دامغة على صدق رسالته. ومن أبرز هذه الآيات:
* **العصا:** كانت عصا موسى معجزة تتجلى فيها قدرة الله. عندما يلقيها، تتحول إلى حية عظيمة تبتلع ما يأفكون من سحرهم. هذه المعجزة كانت دليلاً قوياً على أن ما يأتي به موسى ليس سحراً، بل هو من عند الله.
* **اليد البيضاء:** كانت يد موسى تخرج من جيبه بيضاء كالنور، دون أي علة أو مرض، كآية أخرى تثبت نبوته.
* **السنون والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم:** هذه الآيات الخمس كانت عقوبات إلهية حلت بقوم فرعون عندما أصروا على كفرهم وعنادهم، وكان نزولها ورفعها بيد موسى عليه السلام، مما زاد من إيمان بعضهم وكفر آخرين.
صراع الإرادات: بين عناد فرعون وإصرار موسى
لم تستطع كل هذه الآيات البينات أن تغير من قناعة فرعون المتعنت. لقد كان قلبه مطبوعاً على الكفر، وعقله مسلوباً بالإكراه على السلطة. استمر فرعون في تحديه، مطالباً موسى بالآيات، وعندما تأتي، كان يصفها بالسحر ويقول: “إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ” (الأعراف: 109). لقد كان يخشى أن يفتن بني إسرائيل بسحره، وأن يخرجهم من أرضهم، وهو ما كان يراه تهديداً مباشراً لسلطته.
الطوفان العظيم والنهاية المحتومة
بعد استنفاد كل سبل الدعوة والإقناع، وبعد أن أصر فرعون وقومه على كفرهم وطغيانهم، جاء الأمر الإلهي لموسى عليه السلام بالخروج ببني إسرائيل ليلاً. وعندما وصلوا إلى البحر، كان فرعون وجنوده يلاحقونهم. هنا تجلت قدرة الله العظيمة، حيث ضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق بقدرة الله، وأصبح كل فرق كالطود العظيم.
غرق فرعون وجنوده: درس في الغرور والعقاب
عندما سار بنو إسرائيل عبر البحر، لحق بهم فرعون وجنوده. وعندما وصل بنو إسرائيل إلى بر الأمان، أمر الله البحر أن يعود لطبيعته، فالتهم فرعون وجنوده جميعاً. وفي لحظات الغرق الأخيرة، أدرك فرعون حقيقة الأمر، وصرخ آمناً بالله، ولكن بعد فوات الأوان. قال تعالى: “حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ” (يونس: 90). ولكن الله تعالى رد عليه: “آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ” (يونس: 91).
عبرة الأجيال: الهلاك للطغاة والنجاة للمؤمنين
إن قصة فرعون في القرآن ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي مدرسة تتجلى فيها دروس لا تنتهي. إنها تعلمنا أن الطغيان والجبروت مهما بلغت قوتهما، لا يمكن أن تصمدا أمام الحق وقدرة الله. تعلمنا أن الاستكبار والادعاء بالألوهية هو نهاية محتومة الهلاك. كما تعلمنا أن الإيمان والصبر والثبات على الحق يؤديان إلى النجاة والتمكين. إن فرعون، بكل جبروته وسلطانه، انتهى غريقاً في البحر، شاهداً على ضعف البشر أمام قوة الخالق. أما موسى ومن آمن معه، فقد نجوا بقدرة الله، ليواصلوا مسيرة الإيمان والتوحيد. هذه القصة تظل تتردد في أذن كل متكبر، وتذكر كل ظالم بأن النهاية ليست له، وأن العدل الإلهي آتٍ لا محالة.
