قصة سعد بن معاذ مع بني قريظة

كتبت بواسطة هناء
نشرت بتاريخ : الجمعة 7 نوفمبر 2025 - 6:10 مساءً

سعد بن معاذ: حَكَمٌ لا يُرَدّ، وحكمٌ خالدٌ في تاريخ بني قريظة

تمثل قصة سعد بن معاذ مع بني قريظة واحدة من أبرز الحلقات في السيرة النبوية، حيث تتجلى فيها معاني العدل، والحكمة، والفصل في الخصومات، وتُظهر كيف يمكن لقرارات رجل واحد أن تُخلّد في صفحات التاريخ. لم تكن مجرد حادثة عابرة، بل كانت لحظة فاصلة رسمت ملامح العلاقة بين المسلمين وقبائل اليهود في المدينة المنورة، وتركت أثراً عميقاً في نفوس الأجيال.

سياق الأحداث: خيانة تحالف وضرورة الحسم

في خضم غزوة الأحزاب، وبينما كان المسلمون يدافعون عن المدينة المنورة في مواجهة تحالف قبائل العرب، نقضت قبيلة بني قريظة عهودها مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وانضمت إلى صفوف الأعداء، مهددة بذلك أمن المدينة من الداخل. هذا النقض للعهد لم يكن مجرد خرق لاتفاق، بل كان خيانة صريحة في وقت عصيب، زاد من صعوبة الموقف وخطورته على المسلمين.

بعد انتهاء غزوة الأحزاب وهزيمة المشركين، كان لا بد من معالجة هذا الخطر الداخلي. لم يكن من الممكن ترك بني قريظة وشأنهم بعد هذا الموقف، لما يمثله وجودهم من تهديد مستمر لأمن الدولة الإسلامية الناشئة. لذلك، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتوجه إلى حصون بني قريظة وحصارهم.

اختيار سعد بن معاذ: حكمة النبي وثقة المسلمين

في خضم هذا الموقف الحساس، وبعد حصار استمر لفترة، طلبت بنو قريظة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم رجلاً من قريش. وهنا، تجلت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في اختياره لسعد بن معاذ، سيد الأوس، الذي كان له تاريخ طويل من التحالفات والصراعات مع بني قريظة، والذي كان يتمتع بنفوذ وقبول لدى الفريقين.

كان اختيار سعد بن معاذ قراراً استراتيجياً مدروساً. فمن جهة، كان سعد معروفاً بشدته في الحق وعدم تأثره بالمجاملات، ومن جهة أخرى، كانت له علاقات وثيقة مع بني قريظة، مما يعني أن حكمه سيكون مقبولاً لديهم، ولن يُعتبر ظلماً أو تحيزاً. لقد وثق النبي صلى الله عليه وسلم في نزاهة سعد وقدرته على الفصل في هذه القضية الشائكة.

وصول سعد بن معاذ: المهابة والحسم

عندما وصل سعد بن معاذ إلى بني قريظة، استقبلوه بترحيب، ربما ظناً منهم أنه سيحكم لهم أو يخفف عنهم. لكن سعداً، بحكمته المعهودة، لم يلتفت إلى الترحيب الظاهري، بل أعلن بوضوح وصراحة عن مهمته. كان يعلم أن هذه اللحظة تتطلب الحسم والوضوح، وأن أي تردد قد يؤدي إلى تفاقم الوضع.

سأله بنو قريظة: “يا أبا عمرو، هذا مقامٌ لا يُشْكِكُ فيه أحدٌ، ألستَ ترى أني لا أرضى إلا بما قُضيَ به عليَّ؟”. فأجابهم سعد بعبارته الخالدة التي أصبحت شعاراً للعدل المطلق: “نعم، إني لأرى ذلك، ولكني أرى أن الأوان قد حان ليفصل الأمر، وألا يكون هناك مجال للشك أو التردد”.

حكم سعد بن معاذ: العدل المستمد من السماء

بعد أن استمع سعد إلى أقوال الطرفين، وبعد تفكير عميق، أصدر حكمه الذي هزّ أركان بني قريظة. لقد قضى بأن تُقتل مقاتلتهم، وتُسبي ذراريهم ونساؤهم، وتُقسم أموالهم. كان هذا الحكم قاسياً، ولكنه كان مستمداً من أحكام الله التي نزلت على رسوله في حق من ينقضون العهود ويقاتلون المسلمين.

هذا الحكم لم يكن من عند سعد نفسه، بل كان تطبيقاً لأحكام السماء. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد: “لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة”. وهذا يؤكد أن سعداً لم يكن مجرد قاضٍ بشري، بل كان أداة لتنفيذ أمر إلهي، مما يمنح حكمه قدسية خاصة.

تأثير الحكم: نهاية عهد وبداية أخرى

كان لحكم سعد بن معاذ وقعٌ شديد على بني قريظة. فبينما كانوا يتوقعون حكماً أقل قسوة، وجدوا أنفسهم أمام أمر لا مفر منه. لقد أدى هذا الحكم إلى نهاية وجود بني قريظة كقوة مؤثرة في المدينة، وإلى تغيير جذري في التركيبة السكانية والسياسية للمدينة.

لم يكن هذا الحكم مجرد عقوبة، بل كان رسالة قوية لكل من تسول له نفسه نقض العهود والتحالفات مع الدولة الإسلامية. لقد أرست هذه الحادثة مبدأً هاماً في السياسة الشرعية، وهو أن الخيانة والغدر لا يمكن أن تمر دون عقاب، وأن العدل، وإن كان قاسياً، هو أساس بناء الدولة الآمنة والمستقرة.

إرث سعد بن معاذ: البطولة والتضحية

لم يكتفِ سعد بن معاذ بشرف الحكم، بل أصيب بسهم في غزوة الخندق، أدى إلى وفاته. وعندما كان في فراش الموت، دعا ربه أن يميته شهيداً، وأن لا يذيقه فتنة قومه. وقد استجاب الله لدعائه، حيث مات سعد بن معاذ قبل أن يشهد فتنة بني قريظة، وكان موته شهادة في سبيل الله.

تُعد قصة سعد بن معاذ مع بني قريظة درساً عظيماً في النزاهة، والشجاعة، والالتزام بالحق. إنها تذكرنا بأن العدل هو حجر الزاوية في أي مجتمع، وأن الحكام المخلصين الذين يسعون لإقامة الحق، هم من يتركون بصمة لا تُمحى في التاريخ. لقد أصبحت قصة سعد بن معاذ مثالاً يُحتذى به في تطبيق شرع الله، وفي الحسم عند اللزوم، وفي التضحية من أجل المبدأ.

الأكثر بحث حول "قصة سعد بن معاذ مع بني قريظة"

اترك التعليق