جدول المحتويات
مقدمة في سيرة الصحابي الجليل سعد بن معاذ
في سجلات التاريخ الإسلامي المضيئة، تبرز أسماء قليلة بقدر ما يبرز اسم الصحابي الجليل سعد بن معاذ – رضي الله عنه وأرضاه. لم يكن سعد مجرد صحابي عادي، بل كان قائدًا فذًا، ورجل دولة من الطراز الرفيع، وشاهدًا على أحداث مفصلية في مسيرة الدعوة الإسلامية. لقد كان له دور محوري في تثبيت أركان الدولة الناشئة في المدينة المنورة، وكان لقراراته الحكيمة وجرأته الصادقة الأثر البالغ في كثير من المواقف التي واجهت المسلمين الأوائل.
نشأة سعد بن معاذ وانتماؤه
ينتمي سعد بن معاذ إلى قبيلة الأوس، إحدى القبائل العربية الكبرى التي كانت تسكن المدينة المنورة قبل الهجرة النبوية. وُلد سعد في بيت شرف وعز، حيث كان والده معاذ بن نعمان من سادات قومه، مما أكسبه مكانة مرموقة منذ صغره. شب سعد في بيئة تتسم بالفروسية والشرف، وكان يتمتع بذكاء حاد وفطنة مميزة، بالإضافة إلى كرم الأخلاق وسمو النفس. قبل إسلامه، كان سعد بن معاذ من أبرز زعماء قبيلته، وكان يحظى بمحبة واحترام كبيرين من قومه، وكانوا يلجؤون إليه في حل مشكلاتهم وفض نزاعاتهم.
قصة إسلامه: نقطة تحول عظيمة
كان إسلام سعد بن معاذ حدثًا جللًا، وشكل نقطة تحول حقيقية في تاريخ المدينة المنورة. عندما وصل مصعب بن عمير – رضي الله عنه – إلى المدينة المنورة لتعليم أهلها القرآن ونشر الإسلام، كان سعد بن معاذ من بين الذين استقبلوا الدعوة بالفضول والترقب. رأى مصعب في سعد شابًا واعدًا، ذا عقل راجح وقلب نبيل، فحرص على لقائه.
عندما التقى سعد بمصعب، بدأ الأخير في عرض مبادئ الإسلام عليه. استمع سعد بإنصات، وتأثر بما سمعه من تعاليم سامية تتنافى مع ما كان يعتاد عليه من جاهلية. لكن ما أقنعه حقًا هو إدراك ما في الإسلام من عدل ورحمة وقيم أخلاقية رفيعة. بعد نقاش هادئ، أعلن سعد بن معاذ إسلامه، معلنًا ولاءه لله ورسوله.
لم يكتفِ سعد بإسلامه الفردي، بل كان سباقًا إلى دعوة قومه. عاد إلى دياره وأخبر بني عبد الأشهل بإسلامه، ودعاهم إلى اتباع الحق. لم يواجه سعد معارضة شديدة من قومه، بل استجاب عدد كبير منهم لدعوته، ودخلوا في دين الله أفواجًا. كان إسلام سعد بمثابة الضوء الأخضر لانتشار الإسلام في بني عبد الأشهل، وتحولوا من مجرد قبيلة تسكن المدينة إلى نواة قوية للدولة الإسلامية الوليدة.
سعد بن معاذ: رجل الدولة والقائد العسكري
لم يكن سعد بن معاذ مجرد داعية، بل كان رجل دولة من الطراز الأول. أدرك أهمية التنظيم والإدارة في بناء مجتمع جديد، فكان له دور فاعل في وضع الأسس التي قامت عليها الدولة الإسلامية في المدينة.
دور سعد في غزوة بدر
شهدت غزوة بدر مشاركة سعد بن معاذ، وكان من القادة البارزين فيها. عندما استشار النبي – صلى الله عليه وسلم – أصحابه في ملاقاة جيش قريش، كان سعد من أوائل المتكلمين، معلنًا استعداده التام وجهوزيته القتالية، قائلاً: “والذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا، وإنا لصبر عند اللقاء، وصدق عند الحرب، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِرْ على بركة الله”. كانت هذه الكلمات دافعًا قويًا للمسلمين، وأظهرت مدى إيمانهم ويقينهم بنصر الله.
حكمه في بني قريظة: قمة العدل والحزم
لعله من أبرز المواقف التي خلدت اسم سعد بن معاذ في التاريخ هو حكمه في قضية بني قريظة. بعد فتح مكة، وحين كان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستعد لغزوة تبوك، نقضت بنو قريظة عهودهم مع المسلمين وتحالفوا مع الأحزاب ضد الدولة الإسلامية.
بعد عودة المسلمين من الأحزاب، أرسل النبي – صلى الله عليه وسلم – سعد بن معاذ، وكان آنذاك قد أصيب بجرح بالغ في غزوة الخندق، ليحكم في أمر بني قريظة. كان هذا الاختيار دليلاً على ثقة النبي – صلى الله عليه وسلم – الكاملة في عدل سعد وحكمته.
وصل سعد إلى بني قريظة، وهم في حصونهم، وبعد أن استوثق من أنهم قد رضوا بحكمه، قال لهم: “إني أحكم بما أعلم أني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: “وأنزلوا على حكم الله ورسوله”، فإني أحكم بحكم الله ورسوله”. ثم أصدر سعد حكمه الشهير الذي كان بحسب ما ورد في السنة النبوية: “أن يقتل المقاتلة، وتسبى ذراريهم ونساؤهم، وتقسم أموالهم”.
كان هذا الحكم صارمًا، ولكنه كان مستمدًا من الشريعة ومن مصلحة الدولة والأمن العام، وقد وافق عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “لقد حكمت فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات”.
جنازة سعد بن معاذ: دليل على مكانته
بعد أن أصدر سعد بن معاذ حكمه في بني قريظة، عاد إلى المدينة المنورة، وما زال جرحه غائرًا. مرض سعد مرضًا شديدًا، حتى حضرته الوفاة. عند وفاته، شهدت جنازته حدثًا عظيمًا، حيث ذكرت الروايات أن عرش الرحمن اهتز لموته، وأن أبواب السماء فُتحت لاستقبال روحه، وأن الملائكة شهدت جنازته.
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ”. وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال: “لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النبي – صلى الله عليه وسلم -، فكان سعد فيمن ثبت، فلما كان يوم الخندق، أصاب سعدًا سهم، فقطع أبهره، فاشتد نزفه، فدعا النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال: “اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا، فأبقني لها، فإنه لا يحب بقاءك في قوم إلا حببته إليهم، وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاقض لي بها، واجعل موتي فيها”، فمرض، فعاده النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومعه أبو بكر وعمر – رضي الله عنهما -، فقال: “لقد وجب”، فما هو إلا أن مات، وجاءت الملائكة، فغسلته”.
خاتمة: إرث خالد
لقد ترك سعد بن معاذ – رضي الله عنه – إرثًا خالدًا في التاريخ الإسلامي. كان مثالاً للقائد الذي يجمع بين الحكمة والشجاعة، وبين الإيمان الراسخ والولاء المطلق. لقد كان له دور لا يُنسى في تأسيس الدولة الإسلامية، وفي الدفاع عنها، وفي تطبيق شرع الله بحزم وعدل. إن سيرة سعد بن معاذ تظل مصدر إلهام للأجيال، تذكرهم بأن قوة الأمة تكمن في إيمانها، وفي قيادتها العادلة، وفي تضحيات رجالها الأوفياء.
