جدول المحتويات
فهم ذوي الاحتياجات الخاصة: رؤية منظمة الصحة العالمية الشاملة
في رحلة فهمنا للمجتمع وتنوعه، يبرز مفهوم “ذوي الاحتياجات الخاصة” كعنصر حيوي يتطلب تعريفه وتناوله بعمق ونظرة إنسانية. لطالما سعت منظمة الصحة العالمية، بصفتها الهيئة الرائدة عالميًا في مجال الصحة، إلى تقديم تعريفات ومفاهيم تساهم في بناء مجتمعات أكثر شمولاً وتفهمًا. إن مفهوم ذوي الاحتياجات الخاصة، وفقًا لمنظور منظمة الصحة العالمية، لا يقتصر على مجرد وجود ضعف أو إعاقة، بل يتجاوز ذلك ليشمل التفاعل المعقد بين خصائص الفرد والبيئة المحيطة به.
تطور المفهوم: من التبعية إلى المشاركة
لم يكن تعريف ذوي الاحتياجات الخاصة ثابتًا عبر الزمن. ففي المراحل الأولى، كان التركيز ينصب بشكل أساسي على الجانب الطبي أو العجز الجسدي أو الذهني للفرد، مما أدى إلى تصنيفهم ضمن فئة “المرضى” أو “المعاقين” الذين يحتاجون إلى الرعاية والشفقة. هذا المنظور، وإن كان نابعًا من حسن النية في بعض الأحيان، إلا أنه ساهم في عزل هذه الفئة عن سياقها الاجتماعي الأوسع.
لكن مع مرور الوقت، وتراكم الخبرات والأبحاث، بدأت المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة الصحة العالمية، في تبني نموذج اجتماعي أكثر حداثة. هذا النموذج يرى أن الإعاقة ليست مجرد سمة فردية، بل هي نتيجة للتفاعل بين سمات الشخص (مثل وجود حالة صحية معينة أو ضعف) والعوائق الموجودة في البيئة المحيطة به. هذه العوائق يمكن أن تكون مادية، مثل عدم وجود منحدرات للكراسي المتحركة، أو اجتماعية، مثل التمييز وقلة الوعي، أو حتى مؤسسية، مثل القوانين والسياسات التي لا تلبي احتياجات الجميع.
التعريف العصري لمنظمة الصحة العالمية: تفاعل الفرد والبيئة
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن مصطلح “الإعاقة” (Disability) أصبح يشمل نطاقًا أوسع من مجرد المشاكل الصحية. يُنظر إليها على أنها ظاهرة متعددة الأوجه، تنبع من تفاعل بين خصائص الشخص (مثل المرض أو الإصابة أو الاختلاف في بنية الجسم أو وظيفته) والعوامل البيئية والاجتماعية. هذا التفاعل هو ما يمكن أن يؤدي إلى قيود في المشاركة في الحياة الاجتماعية، أو صعوبة في أداء الأنشطة اليومية.
التصنيف الدولي للوظائف والإعاقة والصحة (ICF)
تُعد “التصنيف الدولي للوظائف والإعاقة والصحة” (International Classification of Functioning, Disability and Health – ICF) أحد أهم الأدوات التي اعتمدتها منظمة الصحة العالمية لتوضيح هذا المفهوم. هذا التصنيف لا يركز فقط على المشاكل، بل يصف أيضًا ما يمكن للأفراد أن يفعلوه، وكيف تتفاعل وظائفهم مع بيئتهم.
وفقًا لـ ICF، فإن مفهوم الإعاقة يتكون من عنصرين رئيسيين:
* **قيود النشاط (Activity Limitations):** وهي الصعوبات التي قد يواجهها الفرد في أداء مهمة أو إجراء ما. على سبيل المثال، قد يواجه شخص لديه ضعف في الرؤية صعوبة في قراءة كتاب.
* **معوقات المشاركة (Participation Restrictions):** وهي المشاكل التي قد يواجهها الفرد في مواقف الحياة. على سبيل المثال، قد لا يتمكن شخص يستخدم كرسيًا متحركًا من الوصول إلى مبنى عام بسبب عدم وجود منحدرات، مما يحد من مشاركته في الفعاليات المجتمعية.
دور العوامل البيئية والاجتماعية
تؤكد منظمة الصحة العالمية على أن العوامل البيئية تلعب دورًا حاسمًا في تحديد مدى الإعاقة. فالمجتمع الذي يفتقر إلى البنية التحتية الداعمة، أو الذي ينتشر فيه الجهل والتمييز، يخلق حواجز تجعل الأفراد الذين لديهم اختلافات جسدية أو ذهنية أو حسية يواجهون صعوبات أكبر. على النقيض من ذلك، فإن البيئات الشاملة التي توفر الدعم والتكيفات اللازمة، تُمكّن هؤلاء الأفراد من تحقيق أقصى إمكاناتهم والمشاركة بفعالية في جميع جوانب الحياة.
من ذوي الاحتياجات الخاصة إلى مواطنين فاعلين
إن التحول في فهم منظمة الصحة العالمية لمفهوم ذوي الاحتياجات الخاصة يعكس تحولاً أوسع في النظرة المجتمعية. لم يعد الأمر يتعلق بـ “من هم” ذوو الاحتياجات الخاصة، بل بـ “ما هي الظروف” التي تمكّنهم أو تحد من مشاركتهم. الهدف الأساسي هو تمكين الأفراد، بغض النظر عن أي تحديات قد يواجهونها، من العيش حياة كريمة، والمساهمة في مجتمعاتهم، وتحقيق ذاتهم.
التنوع والشمول
يعترف هذا المنظور بتنوع الاحتياجات ضمن فئة “ذوي الاحتياجات الخاصة”. لا يوجد فردان متماثلان، حتى لو كان لديهما نفس التشخيص. تختلف الاحتياجات من حيث شدة الإعاقة، ونوعها، والعوامل البيئية المحيطة، والدعم المتاح. لذلك، فإن الحلول يجب أن تكون فردية ومتكيفة، وأن تستند إلى تقييم شامل لاحتياجات وقدرات كل شخص.
حقوق الإنسان والكرامة
تشدد منظمة الصحة العالمية على أن التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة يجب أن يكون قائمًا على مبادئ حقوق الإنسان والكرامة. الإعاقة ليست سببًا للوصم أو التمييز، بل هي جزء من التنوع البشري. يتطلب هذا النهج تغييرًا في المواقف والسلوكيات، بالإضافة إلى توفير الخدمات والدعم اللازمين لضمان حصولهم على فرص متساوية في التعليم، والعمل، والرعاية الصحية، والمشاركة الاجتماعية.
خاتمة: نحو مجتمع شامل للجميع
إن فهم ذوي الاحتياجات الخاصة وفقًا لمنظور منظمة الصحة العالمية يدعونا جميعًا إلى إعادة النظر في كيفية بناء مجتمعاتنا. الأمر يتطلب أكثر من مجرد توفير الخدمات؛ إنه يتطلب تغييرًا ثقافيًا واجتماعيًا يضع الفرد في المركز، ويقدر التنوع، ويزيل الحواجز التي تعيق المشاركة الكاملة. عندما ننجح في خلق بيئات داعمة وشاملة، فإننا لا نخدم فقط ذوي الاحتياجات الخاصة، بل نثري مجتمعنا بأسره، ونحقق رؤية الصحة للجميع، والرفاه للجميع.
