تعريف السعادة في علم النفس

كتبت بواسطة ياسر
نشرت بتاريخ : الخميس 6 نوفمبر 2025 - 11:19 صباحًا

مفهوم السعادة في علم النفس: رحلة عبر الأبعاد النفسية للإنسان

لطالما شغلت السعادة حيزاً كبيراً من اهتمام البشرية عبر العصور، فهي الغاية المنشودة والهدف الأسمى الذي يسعى إليه الجميع. وفي عالم علم النفس، لم تكن السعادة مجرد شعور عابر أو حالة مزاجية مؤقتة، بل تحولت إلى مجال بحثي عميق ومتشعب، يهدف إلى فهم أبعادها، ومعرفة أسبابها، وسبل تحقيقها. يتجاوز التعريف النفسي للسعادة مجرد غياب المشاعر السلبية، ليشمل شعوراً عميقاً بالرفاهية والرضا العام عن الحياة، متجذراً في مختلف جوانب التجربة الإنسانية.

السعادة كحالة نفسية: نظرة أعمق

في جوهرها، تُعرف السعادة في علم النفس بأنها حالة وجدانية إيجابية تتميز بالشعور بالفرح، والرضا، والبهجة، والتفاؤل. لكن هذا التعريف الأولي يتشعب ليضم مكونات أكثر تعقيداً. فالسعادة ليست مجرد لحظة عابرة من السرور، بل هي شعور مستمر نسبياً بالرفاهية، يتأثر بمجموعة واسعة من العوامل الداخلية والخارجية. يرى علماء النفس أن السعادة تتشكل من تفاعل معقد بين العوامل البيولوجية، والاجتماعية، والنفسية، والوجودية.

السعادة الذاتية: المقياس الشخصي للرضا

أحد المفاهيم الأساسية في دراسة السعادة هو “السعادة الذاتية” (Subjective Well-being)، والتي تقيس مدى رضا الفرد عن حياته بشكل عام. لا تعتمد السعادة الذاتية على معايير خارجية ثابتة، بل على تقييم الفرد الشخصي لظروفه ومشاعره. تتكون السعادة الذاتية من ثلاثة مكونات رئيسية:

* **المكون العاطفي:** ويشمل مدى تكرار وشدة المشاعر الإيجابية (مثل الفرح، الاهتمام، الحب) مقارنة بالمشاعر السلبية (مثل الحزن، الغضب، القلق). الأفراد السعداء يميلون إلى تجربة مشاعر إيجابية أكثر من مشاعر سلبية.
* **مكون الرضا المعرفي:** ويعكس تقييم الفرد لرضاه عن جوانب حياته المختلفة، مثل العمل، العلاقات، الصحة، والإنجازات. يتعلق هذا المكون بكيفية تفكير الفرد في حياته ومدى تطابقها مع توقعاته.
* **مكون المعنى والهدف:** ويشير إلى شعور الفرد بأن حياته ذات معنى وهدف. هذا المكون غالباً ما يرتبط بالإنجاز، والمساهمة في شيء أكبر من الذات، والشعور بالارتباط بمبادئ وقيم عليا.

نماذج نفسية للسعادة: تفسيرات متعددة

لم يقتصر علم النفس على تعريف السعادة، بل سعى إلى بناء نماذج تفسيرية لفهم كيفية عملها. من أبرز هذه النماذج:

نموذج PERMA لـ Martin Seligman

يُعد مارتن سليجمان، أحد رواد علم النفس الإيجابي، هو صاحب نموذج PERMA، الذي يحدد خمسة عناصر أساسية تساهم في تحقيق السعادة والرفاهية:

* **P – Positive Emotions (المشاعر الإيجابية):** كما ذكرنا سابقاً، يشمل هذا العنصر الشعور بالفرح، الأمل، الامتنان، والحب.
* **E – Engagement (الانخراط):** ويعني الانغماس الكامل في الأنشطة التي تتطلب تركيزاً واستخداماً للمهارات، مما يؤدي إلى حالة “التدفق” (Flow).
* **R – Relationships (العلاقات):** فالعلاقات الإيجابية والداعمة مع الآخرين هي ركيزة أساسية للشعور بالسعادة.
* **M – Meaning (المعنى):** وجود غرض في الحياة، والمساهمة في شيء ذي قيمة، والشعور بالانتماء.
* **A – Accomplishment (الإنجاز):** تحقيق الأهداف، وتطوير المهارات، والشعور بالكفاءة.

نظرية التقرير الذاتي (Self-Determination Theory – SDT)**

تركز هذه النظرية على ثلاثة احتياجات نفسية فطرية، وتؤكد أن تلبيتها ضرورية للرفاهية والسعادة:

* **الاستقلالية (Autonomy):** الشعور بالتحكم في قراراتنا وأفعالنا.
* **الكفاءة (Competence):** الشعور بالفعالية والقدرة على إنجاز المهام.
* **الارتباط (Relatedness):** الشعور بالانتماء والتواصل مع الآخرين.

عندما تُلبى هذه الاحتياجات، يميل الأفراد إلى الشعور بمزيد من الدافعية الداخلية، والرضا، والسعادة.

السعادة ليست مجرد غياب الألم: أبعاد أخرى

من المهم التأكيد على أن السعادة في علم النفس لا تعني ببساطة خلو الحياة من المشاكل أو الألم. بل هي القدرة على التعامل مع الصعوبات والتحديات بمرونة، واستخلاص الدروس منها، مع الحفاظ على نظرة إيجابية تجاه الحياة. فالصمود النفسي (Resilience) والقدرة على التكيف هي مكونات أساسية في بناء سعادة دائمة.

دور العوامل البيولوجية والاجتماعية

تؤثر العوامل البيولوجية، مثل الوراثة والكيمياء العصبية في الدماغ، على استعدادنا للشعور بالسعادة. كما تلعب العوامل الاجتماعية، مثل الدعم الاجتماعي، والظروف الاقتصادية، والثقافة، دوراً حيوياً في تشكيل تجربتنا للسعادة. المجتمعات التي تعزز المساواة، والعدالة، والترابط الاجتماعي، غالباً ما تشهد مستويات أعلى من السعادة لدى أفرادها.

رحلة مستمرة نحو الرفاهية

في الختام، يمكن القول أن السعادة في علم النفس هي مفهوم ديناميكي ومتعدد الأوجه. إنها ليست وجهة نهائية نصل إليها، بل هي رحلة مستمرة تتطلب وعياً ذاتياً، وجهداً متواصلاً، واهتماماً بالعلاقات، والسعي نحو تحقيق الأهداف، وإيجاد المعنى في الحياة. إن فهم هذه الأبعاد المتعددة للسعادة يفتح لنا آفاقاً جديدة لتحسين جودة حياتنا وتحقيق رفاهية أعمق وأكثر ديمومة.

الأكثر بحث حول "تعريف السعادة في علم النفس"

اترك التعليق